بات واضحاً من الشواهد المعلنة أن لعبة "عض الأصبع" التي يمارسها الطرفان، الايراني والأمريكي، في فيينا قد اقتربت من نهايتها، بانتظار "القرارات الصعبة" كما وصفها عباس عراقجي كبير المفاوضين الايرانيين. فالواضح أن ملالي إيران يقتربون تدريجياً من الخطوة الأخيرة في إطار سياسة "حافة الهاوية" التي ينتهجونها على الطريقة الكورية الشمالية، ويصعّدون الضغوط على الولايات المتحدة سواء من خلال إبعاد آخر من تبقى من المعتدلين عن الساحة السياسية الايرانية وحشد قوى التشدد والتطرف في المواجهة، وذلك بعد الدفع بشخصية متشددة لخلافة الرئيس حسن روحاني في منصبه، فضلاً عن الايعاز لأذرعهم الطائفية بالتصعيد عسكرياً ضد القوات الأمريكية في العراق، ناهيك عن لعب الورقة الأخطر وهي وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورفض تزويدها بأي معلومات جديدة حول البرنامج النووي الايراني.
الجانب الأمريكي يبدو في موقف رد الفعل إلى حد ما، ولكنه يحاول استعادة زمام المبادرة من خلال الرد عسكرياً بقوة وحزم على الهجمات والاستفزازات الايرانية في العراق، ثم إظهار عدم الاكتراث بمصير الجولات السابقة من المفاوضات التي جرت في فيينا، وهو ما أكده وزير الخارجية الأمريكي انتوني بيلينكن حين علّق على سؤال بشأن انسحاب بلاده من المحادثات النووية قائلاً "إنّ موعد الانسحاب يقترب"، ملوحاً للمرة الأولى بامكانية انسحاب بلاده من هذه المفاوضات، وهو السيناريو الذي كان مستبعداً ضمن حسابات نظام الملالي، الذي يعتقد أنه لا بديل أمام الرئيس بايدن سوى رفع العقوبات وعودة الولايات المتحدة للاتفاق، وهذا ما دفع البيت الابيض إلى تغيير الاستراتيجية وإبداء اللامبالاة حيال مصير هذه المفاوضات والتهديد ضمناً بالانسحاب منها، حتى أن المتحدثة باسم البيت الأبيض تعمدت لدى سؤالها عن موعد انطلاق الجولة السابعة من مفاوضات فيينا، القول بأنه لا علم لها متى تعقد الجولة المقبلة، وأخيراً جاءت تصريحات المبعوث الأمريكي لإيران، روبرت مالي، التي قال فيها إن واشنطن لن توافق على رفع جميع العقوبات عن إيران، مضيفا أنها ستنسحب من مفاوضات فيينا إذا كان الاتفاق الذي تريده طهران ليس في صالح بلاده.
أما نظام الملالي فيتحدث عن عدم الاستعجال في التوصل إلى اتفاق وأن إيران قد انتصرت بالفعل في معركة العقوبات، ولا ندري لماذا تصر على رفع هذه العقوبات طالما أنها باتت بلا أثر وأن النصر عليها قد تحقق (!)، وهذا كله يعني بوضوح أن نقطة الخلاف الجوهرية وذروة لعبة "عض الأصبع" التفاوضية قد باتت تتمحور حول العقوبات التي يفترض أن ترفعها إدارة الرئيس بايدن، وهذه أجواء متوقعة قبل الجولة السابعة التي يفترض أن تكون حاسمة، باعتبارها جولة القرارات الصعبة والبت في قضايا رئيسية، وبالتالي يمكن فهم ما وراء كل هذه التهديدات.
أحد الاسئلة التي يطرحها كثيرون: هل هناك بالفعل احتمالية عالية لانسحاب الولايات المتحدة من المفاوضات لأن البيت الابيض يرفض رفع جميع العقوبات المفروضة على إيران؟ الجواب هو لا بالتأكيد لأن البيت الأبيض لن يقبل الانسحاب بسهولة من المفاوضات لأن البديل الاستراتيجي الوحيد سيكون بالضرورة هو التصدي العسكري لتهديدات البرنامج النووي الايراني، لاسيما في ظل وجود متشددين سيدفعون حتماً باتجاه تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم وانهاء علاقات التعاون مع وكالة الطاقة الذرية تماماً، ما يعني التعتيم على الوسيلة الوحيدة المتاحة للرقابة النووية ومحاولة فهم بعضاً ممايدور داخل المنشآت النووية الايرانية.
الأرجح أن الجانبين الايراني والأمريكي، سيغيران استراتيجيات التفاوض في ظل تغير المشهد السياسي الايراني، وأنهما قد يقضيان فترة جديدة لجس النبض واستكشاف النوايا من خلال ممارسة أقصى الضغوط والتهديدات والحرب الكلامية، فالرئيس الأمريكي يدرك أهمية انجاز وعده الانتخابي بالعودة للاتفاق النووي، ولن يقبل بسهولة فكرة الانسحاب من المفاوضات وترك الباب مفتوحاً أمام سيناريو الفوضى. ولكنه بالمقابل لن يقبل فكرة الخضوع لتهديدات نظام الملالي ويحرص ـ كما هو واضح ـ على رد الصاع صاعين لكل تهجم ايراني على المصالح والقوات الأمريكية بالعراق، باعتبار أن الحفاظ على الردع والهيبة الأمريكية هو الضامن الأساسي للمضي مستقبلاً في مناقشة أمور وقضايا أخرى مهمة مع نظام الملالي.
أما متشددو الملالي فيختبرون حدود قوة الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن، ويعتقدون أن تصعيد الضغوط والتهديدات هو السبيل الوحيد لانتزاع تنازلات كبرى من واشنطن، ويراهن البعض على نجاحهم في تحقيق هذا الهدف، ولكن المؤكد أن فوزهم بصفقة كبرى مع واشنطن لن يمر دون عقاب اسرائيلي، واعتقد أن وعد الرئيس بايدن الصريح بأن إيران لن تحصل على قدرات نووية في ولايته الرئاسية، يعكس أنه حسم أمره إما بالتوصل إلى اتفاق مع ملالي إيران، أو اجهاض البرنامج النووي الايراني تماماً قبل أن يحقق اختراقاً نوعياً كبيراً على هذا الصعيد.
مشكلة التعاطي مع نظام مثل ملالي إيران تكمن في أنهم نظام انتحاري بامتياز، فهو لا يبالي بأثر العقوبات الاقتصادية، ولا يهتم بمستقبل ملايين من الشباب الايراني العاطل، ولا يتأثر بتفشي الأمراض والاوبئة بين الايرانيين، ويتفاخر فقط بما حقق من انتهاكات لسيادة الدول وتمويل الأذرع العسكرية الطائفية، وهنا يبدو هامش المناورة التفاوضي أمام الولايات المتحدة ضئيل بالفعل، وليس هناك طوق انقاذ أو مخرج من هذا المأزق سوى استشعار الملالي أن مصير نظامهم في خطر حال انهيار مفاوضات فيينا.
أخيراً يبقى القول أن نظام الملالي قد اعتاد ممارسة لعبة "عض الأصبع" مع الولايات المتحدة في تجارب تفاوضية سابقة، واعتاد أيضاً أن يفوز بما يريد في نهاية الجولة، ولكن هل يتكرر المشهد مجدداً رغم خبرة الرئيس بايدن وفريقه التفاوضي بطبيعة الايرانيين، أم ينجح البيت الأبيض في وضع قواعد جديدة للعبة تسهم في لجم الجموح الايراني بما يعزز موقف الولايات المتحدة في ردع منافسيها الكبار عالمياً؟.