بادر وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن عقب القصف الذي استهدف مسلحين موالين لإيران في العراق وسوريا الأسبوع الماضي، للتأكيد على أنه بمثابة "رسالة ردع قوية" آملاً أن تجد آذاناً مصغية، وأن تردع هذه الغارات أي تحركات إيرانية في المستقبل، واصفاً موقف بلاده بأنه "دفاع عن النفس لمنع المزيد من الهجمات"، ولكن ماحدث بالفعل أن الرسالة لم تحقق أهدافها، حيث تم استهداف قاعدة "عين الأسد" في منطقة الانبار غرب العراق، وهاجمت طائرات مسيّرة قاعدة أمريكية في مطار أربيل الدولي كما تم اسقاط طائرة مسيرّة فوق السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية، علاوة على تعرض حقل نفطي كبير بشرق دير الزور السورية حيث تتواجد أكبر قاعدة للتحالف الغربي، لهجوم بمسيرّات أيضاً، في تطور يشير إلى نقلة نوعية في استخدام الميلشيات الموالية لإيران للمسيرّات في الهجوم على القواعد والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا.
رسالة الردع الأمريكية إذاً قد ضلت عنوانها، أو لم يعبأ بها الطرف الايراني المرسلة إليه، وبادر بإرسال رسالة مقابلة تستهدف الضغط لانهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا. ويبدو أن الميلشيات الموالية لإيران في العراق، تمضي على نهج حركة "طالبان" الأفغانية في مواصلة توجيه الضربات للضغط على الإدارة الأمريكية لسحب قواتها من العراق، وتستغل في ذلك قرار غير ملزم صادر من البرلمان العراقي يدعو القوات الأمريكية بالعراق للمغادرة على الفور ويعتبر وجودها بالبلاد غير شرعي.
اللافت في هذه التطورات الحاصلة على الساحتين العراقية والسورية أنها تتزامن مع تحرك إيراني رسمي آخر يعكس المضي باتجاه التشدد في التعامل مع الولايات المتحدة، حيث اعلن نظام الملالي رسميا اعتزامه إنتاج "يورانيوم معدني" باستخدام اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة، لوقود مفاعل طهران، ما يعني مخالفة بنود الاتفاق النووي الذي يحظر على إيران القيام بأعمال البحث والتطوير بمجال تصنيع البلوتونيوم أو تعدين اليورانيوم، الذي يستخدم في صناعة أسلحة نووية، بينما يزعم الملالي أنهم يستهدفون تطوير أبحاث طبية، وإنتاج أدوية إشعاعية لها أهميتها في مجال الطب النووي.
ورغم أن نظام الملالي يزعم أن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% يتم لأغراض بحثية طبية يحتاجها نحو 800 مريض يعالجون بالطب النووي في البلاد، فإنه يعلن في الوقت ذاته استعداده للتراجع عن هذه الخطوة بمجرد رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، مايعني أن المسألة لا علاقة لها بالمرضى الذين يتم المتاجرة بهم لتحقيق طموحات الملالي، ويعني كذلك أن التطورات جميعها على علاقة ببعضها البعض، وأن ما يجري حالياً سواء ارتبط بمحادثات فيينا أو بالتصعيد الحاصل ضد القوات الامريكية في العراق وسوريا، يستهدف في مجمله تعزيز الموقف التفاوضي الايراني في الجولة التفاوضية السابعة المزمع عقدها في فيينا خلال الأسبوع المقبل، حيث يفترض أن يجري النقاش حول قضايا رئيسية واتخاذ قرارات جوهرية.
والمؤكد أنه عندما تشن ميلشيات موالية لإيران ثلاث هجمات باستخدام صواريخ أو طائرات مسيرّة على مصالح أمريكية بالعراق وسوريا في غضون 24 ساعة، فإن الرسالة هنا تعني أن الملالي قرروا التصعيد لآخر مدى، وأن لعبة "عض الأصبع" التي يمارسونها مع الولايات المتحدة قد احتدمت، مايضع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في اختبار بالغ الصعوبة، سواء لجهة الرد عسكرياً بقوة وحزم أكبر من ذي قبل ما يهدد بتصعيد مضاد والمجازفة بنشوب مواجهة مباشرة مع إيران قبل الحصول على موافقة الكونجرس، أو لجهة الصمت مع كل ما يعنيه ذلك من أثر سلبي على موقف البيت الابيض الذي رفع شعار استعادة هيبة الولايات المتحدة عالمياً ويتحدث دائماً عن ضرورة امتلاك قوة الردع في مواجهة خصوم الولايات المتحدة وأعدائها.
ورغم أن هجمات الميلشيات الموالية لإيران ضد المصالح الأمريكية بالعراق ليست أمراً جديداً بالنظر إلى الاحصاءات التي تقول أن هذه المصالح قد تعرضت لنحو 300 هجوم معظمها بالصواريخ خلال العام الماضي ولكن يلاحظ أن الكثير منها قد نٌفذ بعبوات ناسفة استهدفت قوافل الامداد، ولذا فإن دخول الطائرات المسيرّة على خط هذه الهجمات، وتسارع وتيرة حدوثها (بمعدل 3 هجمات في غضون 24 ساعة) يعني أن قواعد اللعبة يمكن أن تتغير، لأن الطائرات المسيرّة ذات قدرات عملياتية كبيرة على تحقيق خسائر ويصعب ايقافها وقادرة على إصابة الأهداف بدقة أكبر من الهجمات بصواريخ ايرانية الصنع مايعني أن ردة الفعل الأمريكية ستتغير على الأرجح.
ملالي إيران يلعبون لعبة خطيرة في العراق، ويرهنون أمن واستقرار هذا البلد العربي العريق لمصالحهم وأغراضهم التفاوضية مع الولايات المتحدة، ومن الخطأ منحهم هدايا مجانية يخططون من أجلها، بل يفترض أن يتم ردعهم تماماً عن انتهاك سيادة الدول والاعتداء على أمنها واستقرارها.