مع قرب اتمام انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، تتواتر أنباء الانتصارات العسكرية التي تحققها "طالبان" وتبدو الحركة في سبيلها لتعزيز سيطرتها على معظم الاقاليم الأفغانية، الأمر الذي يطرح تساؤلات مهمة حول طبيعة الوضع الأمني والسياسي في افغانستان في مرحلة مابعد الانسحاب الأمريكي ـ الأطلسي، وهل يخضع هذا البلد مجدداً لحكم "الملالي"، وكيف يمكن أن تستغل التنظيمات الارهابية الفراغ الأمني الناشىء عن خروج القوات الأجنبية، وهل يمكن أن تتحول أفغانستان مجدداً إلى مأوى لتنظيمات ارهابية مثل "القاعدة" أو "داعش" سواء تحت مظلة حكم "طالبان" أو بسبب صعوبة السيطرة على الأراضي الأفغانية بشكل كامل.
الشواهد تؤكد أن هناك توجهاً يتنامى بشأن التعامل الدولي مع "طالبان"، وجاءت الاشارة الأبرز في هذا الشأن من تصريحات وزير الدفاع البريطاني بن والاس، التي قال فيها إن بريطانيا مستعدة، إذا لزم الأمر، للعمل مع حركة "طالبان" إذا وصلت الأخيرة إلى السلطة في أفغانستان، وأكد الوزير في مقابلة مع صحيفة "تلغراف": "أيا كانت القوى الموجودة في الحكومة (الأفغانية)، إذا التزمت بمعايير دولية محددة، ستتعامل معها الحكومة البريطانية، "وقال والاس إنه يتفهم أن مثل هذا القرار قد يواجه ردود فعل، لكن النهج البراغماتي يمكن أن يكون أساس السلام الدائم، مضيفا: "في أي عملية سلام، يجب التصالح مع العدو". وأوضح أن "طالبان" تريد الحصول على اعتراف دولي، ولهذا سيتعين عليها التخلي عن الأساليب المتطرفة، مؤكدا أن "بناء الدولة يحتاج إلى تمويل ودعم، لكن لا يمكن الحصول على ذلك بقناع إرهابي". هذه التصريحات تشير إلى أن ثمة قناعة دولية تتبلور بشأن امكانية القبول بعودة حركة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان شريطة أن تتخلى عن أفكارها وسياساتها المتطرفة التي قادتها من قبل إلى إيواء عناصر تنظيم "القاعدة" الارهابي والسماح للتنظيم بالتخطيط لتنفيذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر انطلاقاً من الأراضي الأفغانية.
روسيا من جانبها قالت على لسان المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، مدير قسم آسيا بوزارة الخارجية الروسية، زامير كابولوف، إن الأوضاع التي تعيشها أفغانستان حالياً، حذرت منها موسكو منذ سنوات، مؤكداً رفض بلاده التام لإعادة تأسيس إمارة إسلامية في أفغانستان، ولكنه عبر ضمناً عن امكانية القبول بوجود "طالبان" في المشهد السياسي الأفغاني في حال تخلت عن شكل الحكم التقليدي الذي تتبناه، لاسيما أن المبعوث الروسي قد أقر بأن سيطرة مسلحي حركة "طالبان" على مناطق كثيرة في أفغانستان قد حرمت تنظيم "داعش" من الأرضية التي تمكنه من شن هجمات وأعمال تخريبية في دول آسيا الوسطى، وأشار إلى أن "طالبان" تؤكد أنها لن تستخدم أفغانستان كنقطة انطلاق لشن هجمات على الدول المجاورة.
معنى ماسبق أن فكرة وجود "طالبان" في المشهد السياسي الأفغاني لم تعد مرفوضة لا من الغرب ولا من روسيا، ويتبقى موقف الصين، التي لا تزال تراقب تطورات الوضع في أفغانستان، وبالتأكيد فإن الوضع هناك يبدو في غاية الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للصين، لاسيما بعد وصول نفوذ "طالبان" إلى اقليم "بدخشان" القريب من منطقة "شينجيانغ" الصينية، مايثير قلق السلطات الصينية خشية حدوث تنسيق وتعاون بين "طالبان" والحركات المسلحة في الاقليم الصيني رغم محاولات الحركة طمأنة الصين وإرسال إشارات عدة على عدم رغبتها في اثارة قلق بكين. ويرى بعض المراقبين الآسيويين أن باكستان قد تلعب دور "عراب" تقريب وجهات النظر بين الصين وحركة "طالبان" بحكم علاقات إسلام آباد الوثيقة بالحركة ورغبتها في ضمان وجود مثل هذا التعاون الذي يصب في مصلحة باكستان الاستراتيجية.
الواقع يقول أن الصين تدعم حكومة الرئيس أشرف غني، وتشعر بالارتياح إزاء انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ولها علاقات واضحة مع حركة "طالبان" التي قام ممثلوها بزيارات عدة لبكين، حتى أن الصين عرضت استضافة محادثات سلام بين الفرقاء الأفغان، ويبدو أن الصين تحتاج إلى بناء علاقات قوية مع أي طرف يحكم أفغانستان في المرحلة المقبلة بالنظر إلى أهمية الاستفادة من أفغانستان في إطار خطة "الحزام والطريق"، باعتبار أن أفغانستان يمكن ان تكون ممراً مثالياً لنقل السلع الصينية إلى باكستان.
الأجيال الجديدة من حركة "طالبان" تريد أن تثبت للعالم أنها استوعبت الدرس جيداً، وأنها بصدد ممارسة السياسة وفق قواعد اللعبة المتعارف عليها دولياً، ولكن مثل هذه الرؤى لا تزال مجرد افتراضات واجتهادات من جانب المحللين ولم تختبر بعد بشكل عملي، فحركة طالبان تعهدت غير مرة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للصين، رغم موقف الحركة المتعاطف مع مسلمي الأيغور وعلاقاتها القديمة مع مسلحي الاقليم الصيني، وفي ذلك يشير المتحدث سهيل شاهين، إلى أن "طالبان" تعهدت في اتفاق الدوحة في فبراير 2020 مع واشنطن بعدم السماح باستخدام أراضي البلاد ضد دول أخرى، وعدم قبول أي لاجئين أو منفيين خارج إطار قانون الهجرة الدولي، وهنا يمكن الاشارة إلى أن سهيل شاهين المتحدث باسم الحركة قد تحدث خلال وجوده في قطر عن أفغانستان باعتبارها "إمارة إسلامية"، ما يعني أن الأمور الجوهرية لم تتغير كثيراً لاسيما على صعيد فلسفة الحكم وأيديولوجية الحركة الدينية والسياسية.
وبالتالي، يصعب الآن بناء رؤية تحليلية متماسكة حول توجهات وسلوكيات وسياسات حركة "طالبان" في المرحلة المقبلة، وهل ستقبل الحركة فعلياً بقواعد السياسة والعلاقات الدولية وتعمل وفق ميثاق الأمم المتحدة، أم ستطغى عليها أيديولوجيتها الضيقة التي كانت سبباً في إطاحتها عقب اعتداءات 11 سبتمبر 2001؟
تقارير المخابرات الأمريكية تحذر من انهيار الحكومة الأفغانية في وقت مبكر من العام المقبل أمام الهجمات المستمرة من جانب مسلحي "طالبان"، فيما يقول الرسميون الأمريكيون أن الولايات المتحدة تغادر تاركة قدرة جوية عن بعد لدعم الحكومة الأفغانية، ولكن الموضوعية تقتضي القول أن هناك تركيز أمريكي على ابقاء العاصمة كابول فقط تحت سيطرة الحكومة، بينما تفضي تجارب الماضي القريب إلى أن الدعم الجوي ـ بغض النظر عن حجمه وتفوقه ـ لا يضمن بمفرده سيطرة حكومة شرعية على الأرض، لأن الحروب غير التقليدية غالباً ما تؤدي إلى نتائج مغايرة لتوقعات الخبراء، بدليل أن الحكومة الأفغانية تخسر الاقاليم التي تسيطر عليها واحداً تلو الأخر بسرعة لافتة رغم عدم اتمام الانسحاب الأمريكي من البلاد بعد، حيث اعلنت "طالبان" مؤخراً سيطرتها على 218 مديرية من أصل 370 في أفغانستان وتزعم الحركة أنها تسيطر على نحو 85% من الأراضي الأفغانية في حين تشكك الحكومة في صحة هذه المزاعم.
هناك سيناريو آخر يقول أن أفغانستان ستنزلق إلى حرب أهلية على غرار ماحدث عقب الانسحاب السوفيتي عام 1989، فرغم أن حركة "طالبان" قد نفت عزمها الاستيلاء على العاصمة كابول عسكرياً، فإنها في الوقت ذاته تعتبر أن الحكومة الأفغانية "في حالة احتضار"، وكل هذه المؤشرات تضع مستقبل أفغانستان مابعد الانسحاب الأمريكي امام سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات، لاسيما في ظل تمركز عناصر من تنظيم "داعش" في شمال أفغانستان بحسب الدوائر الرسمية الروسية، ما يفتح الباب أمام تدخل روسي محتمل لضرب التنظيم داخل الأراضي الأفغانية قبل أن يتوغل داخل دول آسيا الوسطى (طاجكستان واوبكستان وتركمانستان).