لا يشك أحد في أن الفلاسفة والمنظرين والباحثين قد حاولوا منذ القدم بلورة صيغ واستنباط نظريات مثلى لبناء مجتمع يشعر الانسان فيه بآدميته وانسانيته، ولم تكن مصطلحات ومفاهيم السياسة المعاصرة وتطبيقاتها كافة سوى أحد تجليات هذا الجهد البشري المحمود، ولكن المفارقة أن النخب في العالم العربي والإسلامي لم تعد تسهم في مسيرة الحضارة والثقافة الانسانية في القرون والعقود الأخيرة، واكتفت باجترار ماينتجه الغرب وتسويقه لدى أبناء جلدتهم من دون إضافة أو تعديل، ناهيك عن إنتاج صيغ مبتكرة تراعي الخصوصيات الثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية.
هذه الإشكالية تنعكس في جمود الحضارة الإسلامية وتكلسها عند مراحل تاريخية مضت وتفسر هذا الجمود والتكلس، وتحول بعض مراكز الحضارة العربية والإسلامية إلى هياكل أثرية فيما بات بعضها الآخر مجرد أكوام من التراب وحوائط ترثي بناتها وساكنيها في قرون مضت كان لتلك الحضارة دور تنويري جعل العالم قاطبة يبني على ما أنتجته من علوم ومعارف وثقافة وفنون.
أردت من هذه المقدمة تسليط الضوء على فكرة جمود النخب العربية واكتفائها باجترار نظريات غربية من دون أدنى مراعاة لواقع مجتمعاتها وبيئاتها المحلية، فالديمقراطية وصيغها وتجلياتها ونظريات الحكم وغير ذلك تهدف في الأخير إلى بناء أنظمة حكم توفر العدالة والعيش الكريم لمواطنيها، وبالتالي يصبح من الاجحاف أن يخرج علينا تقرير صادر من مركز للدراسات في دولة خليجية شقيقة يشير إلى أن ما يصفه التقرير بالمنحنى الأمني هو السائد في المشهد السياسي في دول الخليج العربية، سواء على المستوى الداخلي في التعاطي مع المعارضة المحلية في كل دولة، أو على المستوى الإقليمي في العلاقات مع دول الجوار؛ ويزعم التقرير أنه على المستوى المحلي، لا يزال الخيار الأمني يشكل الإستراتيجية المتبعة في الإمارات والبحرين والسعودية"!.
المثير للسخرية أن معدي التقرير يزعمون أنه يصدر من بيئة خليجية باعتبار أن "أهل مكة أدرى بشعابها"، ولا أدرى شخصيا عن أي منحنى أمني سائد في الامارات يتحدث "أهل مكة" الذين هم أدرى بشعابها وشاركوا في إعداد التقرير بناء على ميزة لا يبدو لها أدنى أثر في تشخيصهم وتوصيفهم لما يدرسون ويشخصون ؟!
ولنكن أكثر صراحة، فقلمي المتواضع لا يحب الاختباء وراء الكلمات، وبمعنى آخر، إذا كان هؤلاء يقصدون التعامل مع جماعة الإخوان المسلمون الارهابية في دولة الامارات، فلن أبادر بالقول أن هذا شأن داخلي سيادي إماراتي، ولن أعيد تفاصيل القضية التي تورطت فيها عناصر الجماعة في الأعوام الأخيرة، ولكني اكتفي بالاشارة إلى أن جماعة الإخوان المسلمين وأتباعها في الامارات ليست معارضة سياسية كما يزعم التقرير المشوه، بل هم عناصر مارقة مجتمعياً يمتلكون ولاءات خارجية، ولا شعبية لهم ولا نفوذ، وهم بالمناسبة موجودون في الامارات منذ عقود مضت ولم يكن هناك أي نوع من التضييق الأمني عليهم، بل فتح الباب أمامهم للعودة إلى الصواب، أكثر من مرة ومن جانب مستويات قيادية رفيعة في الدولة، ولكنهم في كل مرة كانوا يزدادون إصراراً على التمسك ببيعة المرشد، وعندما حاولوا استنساخ تجارب دول أخرى قفزت الجماعة إلى السلطة فيها في لحظة انتقالية جرت أحداثها في ظروف غير عادية، لم يكن هناك سوى القانون، لا الأمن، للتعامل معهم في الامارات، وتمت محاكمتهم وفق إجراءات شفافة تمت من دون أدنى تعتيم إعلامي.
التساؤل المشروع هنا: إذا كنا قد ارتضينا أن نعيش مواطنين متساوون في الحقوق والواجبات تحت سقف دولة ذات سيادة، فلماذا يفترض البعض أن نضطر إلى قبول تقاسم دولتنا سيادتها مع جماعات وتيارات ذات ولاءات خارجية عابرة للحدود ولا تعترف بفكرة الدولة والسيادة من أساسها وترفضها تماما؟!.
لم أكن أتصور أن هناك نخب خليجية تحاول ارتداء عدسات ترى من خلالها الأمور في دولنا وفقا لمفهوم الغرب، الذي لا تخفى مطامعه وأهدافه ومراميه على أحد!! ولم أكن أتصور أن هناك نخب خليجية تتحدث عن معارضة سياسية يتم التعامل معها أمنيا في دولة الامارات رغم أن الكل يدرك تماماً أن الامارات تمتلك نموذج حكم ذا خصوصية فريدة يجعل المواطن في قلب دوائر اهتمام صانع القرار، كما يسعى هذا النموذج إلى تطوير آلياته وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في الحكم عبر تجربة سياسية تدريجية مستمرة تحفظ للمجتمع استقراره وتحول دون تكرار سلبيات القرارات العشوائية والتحولات الفجائية التي تفتح باب الفوضى على مصراعيه.
ربما يبدو من المبالغة أن نطالب النخب التي تزعم السعي لانتشال الدول العربية والاسلامية من كبوتها بأن تنتج فكراً سياسياً يراعي خصوصيات الأوضاع في دولنا، التي لا تتشابه في الكثير من خصائصها مع الغرب، ولكن ربما يبدو من المنطقي أن نطالب هؤلاء بالتبصر قليلا قبل الادعاء ـ مثلا ـ بأن المنحنى الأمني هو السائد على المستوى الإقليمي في العلاقات مع دول الجوار، والأرجح أنهم يقصدون الأزمة اليمنية، وفي ذلك ـ إن صح التقدير ـ خطأ استراتيجي فادح، فدول مجلس التعاون لم تطلق المجال للحل الأمني في اليمن سوى بعد أن حدث ما لا يحمد عقباه من سيطرة للحوثيين على معظم الأراضي اليمنية وتهديدهم لأمن واستقرار الشعب اليمني وتغذية عوامل الصراع الأهلي في دولة تمثل مجالاً حيوياً لأمن دول مجلس التعاون. فضلا عن أن الحل الأمن المتمثل في "عاصفة الحزم" قد جاء بعد فشل المبادرة الخليجية التي استهدفت ضمان انتقال سياسي آمن للسلطة في اليمن الشقيق وفق آليات وخارطة زمنية محددة، وبالتالي يصبح الزعم بترجيح الحل الأمني في اليمن أو غيرها من ملفات الاقليم مجرد تحليل لا يستند إلى منطق ويسهل تفريغه من محتواه.
عندما تسبق الشعوب نخبها فكرياً وتلتف حول قيادتها السياسية سواء في دولة الامارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو غيرها من دول مجلس التعاون تصبح تلك النخب خارج دائرة التأثير والدور التوعوي الذي يفترض أن تؤديه، فالرؤى الواقعية تنبت من أرضها والحلول العملية ينبغي أن تنبت في تراب البيئات المحلية ولا تستورد أو تجلب سابقة التجهيز من الخارج. والأزمة الحقيقية ليست في العلاقة بين شعوب دول مجلس التعاون وقادتها بل بين الشعوب وشريحة من نخبها التي تحلق في فضاء التنظير ولا تهبط إلى أرض الواقع، ومن ثم ستظل هذه النخب تعاني داء الاغتراب المجتمعي وضعف المناعة الفكرية.
شؤون عربية
العقم الفكري وخصوصية الحالة الخليجية
- الزيارات: 667