منذ فترة تناولت بالنقد ضعف موقف تيار الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي، وتركهم الساحة خاوية يتمدد فيها تيار التطرف والتشدد بأطيافه وتنظيماته وجماعاته كافة.
ومؤخراً، وجهت الملكة رانيا العبد الله قرينة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، انتقادات إلى المعتدلين، واعتبرت أنهم «لا يقومون بما هو كاف للانتصار في المعركة الأيديولوجية» ضد تنظيم «داعش» ودعت إلى الرهان على الشباب لتجنب سقوط المنطقة بأيدي المتطرفين، ولكنها في الوقت ذاته ذكرت بعض المؤشرات التي ترسم صورة قاتمة للمستقبل القريب في المنطقة ما لم يتم تدارك الأوضاع؛ ومن هذه المؤشرات التي لا تخفى على أحد معدلات البطالة العالية بين الشباب في معظم الدول العربية، والتي تبلغ نحو 25% وتزيد علي ذلك في دول تشهد فوضى وصراعات عسكرية طاحنة، والأمر لا يقتصر على ذلك بل إن هناك حاجة إلى مائة مليون فرصة عمل حتى عام 2020، وبخلاف ذلك تكون سوق البطالة أكثر اكتظاظا وازدحاماً بالعاطلين، وسيكون هؤلاء بمنزلة مخزن بشري هائل واحتياطي استراتيجي من اليسير على تنظيمات التطرف والإرهاب أن تحصل منه على ماتريد من انتحاريين ومقاتلين.
شخصيا، لا اعتقد أن موقف المعتدلين هو العامل الوحيد في تمدد تيار التطرف وكسبه أرضاً جديدة كل يوم، فهناك عوامل تغذي هذا الواقع وتنفخ فيه، ولكن الاعتدال بحد ذاته قد سقط في فخ صمت مريب، ولم يقدم نموذجه في مواجهة نموذج التطرف، بل إن المعتدلين يؤثرون الصمت في أحيان كثيرة!! وهنا يثور تساؤل مشروع: هل يدرك المعتدلون تأثيرات موقفهم؟ وهل يثق هؤلاء في أن الفشل ليس خياراً في الصراع مع التطرف والإرهاب؟!
في القرن الماضي، أطلق مارتن لوثر كنج مقولته الشهيرة «إن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة»، وبطبيعة الحال لا أتهم من يقفون على الحياد انطلاقا من هذه المقولة بأي سوء ، ولكني أردت الإشارة إلى عظم خطر موقفهم الذي يتبنون، وأثق أن غالبية المعتدلين لا تتحرك بشكل إيجابي اعتماد على أن هناك آخرين يضطلعون بدورهم، وأن هناك من يتصدى للفكر المتطرف، لذا ينزلق صوت الاعتدال تلقائيا وتدريجياًإلى فخ الحياد السلبي.
ثمة إشكالية أخرى في الحديث عن الاعتدال، حيث يحتاج المفهوم إلى قدر من الضبط الاصطلاحي والمفاهيمي، وهل نعني به الاعتدال الديني أو الاعتدال السياسي أم الاعتدال القيمي والأخلاقي، ولكل منها معاييره وضوابطه ومرجعياته، ثم هل المعتدلون هم مؤسسات أم أفراد؟ وما هو الإطار المؤسسي الذي يمكن أن يتحرك من خلاله هؤلاء المعتدلون: وسائل إعلام، مؤسسات تربوية وتعليمية، تفاعلات مجتمعية، منابر دينية أم كل ذلك معا؟ ومن يحدد أطر هذا التحرك ويرسم أهدافها كي لا تصاب بالعشوائية ومن ثم تنعدم فاعليتها.
أحد أبرز سمات التشدد والتطرف والارهاب أنه يتحرك ضمن أطر تنظيمية، فهناك جماعات إرهابية معروفة وأخرى غير معروفة، ولكنها جميعا تعبر عن قناعاتها وفكرها وتعلن جرائمها عبر منابر إعلامية معينة، وهناك قادة لهذه الجماعات والتنظيمات يتحدثون باسمها ويعبرون عن فكرها ومراميها وأهدافها، وهذا الإطار الناظم للفكر المتطرف يفسر فاعلية هذا الفكر مقدرته على النفاذ وتحقيق الأهداف.
قد يقول قائل إن ظاهرة التطرف ليست منظمة بالشكل الذي تتحدث عنه، وأن هناك متطرفين في دول واماكن كثيرة لا يخضعون تنظيميا لجماعات بعينها ولكن صوتهم يبدو الأعلى في مجتمعاتهم، وهذا صحيح إلى حد كبير، بل إن هذه الشريحة من المتطرفين غير المصنفين تنظيميا باتت تمثل خطراً داهماً على الأمن والاستقرار في العالم ضمن ما يعرف بظاهرة «الذئاب المنفردة» التي تؤرق السلطات الأمنية في دول العالم، وتقض مضاجعها.
الإشكالية أن التحركات المتطرفة المنفردة خطيرة وتخلف آثاراً مدمرة على صعيد الأمن والاستقرار، وإن كان تأثيرها الفكري والدعائي يبدو غير ذي بال مقارنة بالتحركات الجماعية والتنظيمية للتيارات والجماعات المتطرفة، في حين يحتاج الاعتدال إلى تحركات منظمة ومؤسسية وذات خطط واستراتيجيات واضحة كي يمكن أن تكتسب قدراً من الانتشار والفاعلية.
لذا فإن حياد المعتدلين ليس خيارا في الصراع ضد التطرف والإرهاب والتشدد ولا مبالغة إن قلت إنه يسهم في تفاقم آثار التطرف والإرهاب، ويقدم صورة غير دقيقة لتيار الاعتدال، والمطلوب هو أن يبادر المعتدلون إلى إسماع صوتهم وإظهار حجمهم، كي يكتسب تيار الاعتدال المصداقية التي يستحق، ولا يترك الساحة خاوية للمتطرفين والإرهابيين.