تابعنا في دول مجلس التعاون، كما تابع الملايين في العالم أجمع، مأساة اللاجئين السوريين في دول أوروبية عدة، وشعرنا جميعا بالفاجعة للصور والمشاهد التي تناقلتها وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ما أزعجني وغيري من الشعوب العربية الخليجية أن هناك من اتخذ من هذه المأساة منصة إطلاق لسهام التجريح والتشويه والسباب لدول مجلس التعاون وقادتها وشعوبها، بحجة تخاذلهم في مساعدة الشعب السوري الشقيق.
الكثير من السباب والتجريح تم تداوله على خلفيات غير دقيقة، فحري عن البيان أن دول مجلس التعاون تتحمل الكثير من العناء المالي والسياسي والدبلوماسي في معالجة ملفات عربية لا تزال تنزف في اليمن وسوريا وليبيا، فضلا عن دور هذه الدول في تقديم الدعم المالي لدول عربية أخرى عانت، ولا تزال، توابع ما يعرف بالربيع العربي، الذي عصف بمرتكزات الأمن والاستقرار في الكثير من الدول العربية.
لست بصدد الدفاع عن موقف مأزوم أثق تماما أن الآخر لا يبحث فيه عن الحقيقة، بقدر ما يسعى إلى توجيه السباب واللوم وكيل الاتهامات، ويجد في مثل هذه المناسبات فرصة للتنفيس عن مكنون الذات تجاه شعوب دول مجلس التعاون، التي يبدو أن قدرها أن تتلقى الطعنات الكلامية الجارحة من الكثيرين كلما لاحت في الأفق أزمة أو فاجعة إنسانية.
قديما كانت هذه الموجات المتوالية من الشتائم والسباب توجه كلما تفاقمت أزمة الشعب الفلسطيني ومعاناته وتعرضه لهجمات واعتداءات إسرائيلية غاشمة، والآن تتجدد هذه الهجمات الجارحة منطلقة من مآسٍ يتعرض لها الأشقاء السوريون على حدود الدول الأوروبية البرية والبحرية، ويبدو أننا نعيش موسم توجيه أصابع الاتهام لدول مجلس التعاون وشعوبها.
البعض يتداول تساؤلات صحف وكتاب ومسؤولين غربيين حول عدم توجه هؤلاء اللاجئين إلى دول الخليج وتفضيلهم الذهاب إلى أوروبا، وتساؤلات أخرى حول ما يصفونه بصمت دول الخليج حيال تفاقم مأساة اللاجئين السوريين. وكنت أتمنى شخصيا أن تكون هذه التساؤلات بريئة، وأن تصب في خانة البحث عن حلول حقيقية لواحدة من أبشع المآسي الإنسانية للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، فما بالنا والمصاب عرب أشقاء وأخوة لنا في الدين والعروبة، ولكن الكثيرين اختاروا المزايدة على مواقف دول مجلس التعاون، واستغلال الفرصة لتوجيه اللكمات إليها والنيل من سمعتها ومحاولة تدمير صورتها الذهنية عبر إساءات لا معقولة في أحيان كثيرة.
من الناحية الموضوعية، هناك عشرات الردود المقنعة على ما يثار بشأن موقف دول مجلس التعاون حيال الأزمة السورية، ولكني أثق تماماً أنها لن تجد طريقاً لآذان صاغية، فالكثيرون ممن يرددون هذه الاتهامات ينتمون، كما هو واضح من المتابعة لما ينشر، إلى الجيوش الإلكترونية لتنظيمات الإرهاب والجماعات المتطرفة التي أوقعت المنطقة بأكملها وسط جحيم فتن طائفية ومذهبية وعرقية لا يبدو أنها توشك على الانتهاء، ثم لا تجد غضاضة في توجيه أصابع الاتهام لدول الخليج بالتقصير في إغاثة الأشقاء.
مثل هذه المناسبات والمشاهد المأساوية الحقيقية تمثل كنزاً دعائيا لمخططي الشحن التعبوي والحملات الإعلامية النفسية التي تجيدها تيارات دينية بعيْنها في المنطقة، فالفرصة مواتية وثمينة لهؤلاء للنيل من سمعة دول الخليج والتشهير بها عالمياً وإقليمياً، بل ومحاولة الوقيعة بين بعض قيادات هذه الدول وشعوبها من خلال استثارة المشاعر الدينية والقومية والتلويح بادعاءات زائفة لا تمثل في حقيقتها سوى متاجرة بمشاعر البشر والآمهم ومعاناتهم من أجل تحقيق انتصارات إعلامية وهمية، وكسب نقاط رخيصة على حساب أشقاء يحتاجون إلى دعم حقيقي لا مواقف دعائية سخيفة.
يدرك هؤلاء الحاقدون أن التدفقات البشرية للاجئين السوريين ليست وليدة الأمس، وأن هناك الملايين من هؤلاء أمضوا مواسم شتاء قاسية على حدود تركيا والأردن ولبنان وغيرها منذ اندلاع الصراع في سوريا عام 2011، وبالتأكيد وقعت مآس بشعة لا تعد ولا تحصى، وهذا لا يقلل من قساوة المشاهد الإنسانية الأخيرة، ولكن ما أريد قوله أن المعاناة الإنسانية مستمرة منذ فترة، وأن دول مجلس التعاون تتعامل مع كل هذه الملفات النازفة بأقصى قدراتها وطاقاتها الإنسانية والمادية والسياسية، ولكن أزمات المنطقة قد تجمعت في وقت واحد، وبات حلها، جميعها، يتطلب طاقات وجهود دولية تفوق ما لدى دول مجلس التعاون.
عندما أشكك، بل أقطع، بنوايا الهجوم الخبيث على دول مجلس التعاون، لا أنطلق من فراغ، بل من شواهد ومؤشرات بعينها، فلم ألحظ أي لوم ولو على استحياء لدور تركيا، التي صبت مؤخرا الزيت على نار الصراع في سوريا، بدعوى القتال ضد تنظيم داعش رغم أن هدف أنقرة المؤكد هو حرمان الأكراد من دولة وشريط حدودي قد ينطلقون منه إلى بناء دولتهم المستقلة، فلا يخفى على أحد أن الحدود التركية كانت لسنوات مضت الممر الآمن لعشرات الآلاف من المقاتلين والمرتزقة الساعين للانضمام إلى صفوف داعش. فتركيا تأخرت كثيرا في الانتصار للشعب السوري، وسعت إلى تحقيق أجندتها المصلحية الخاصة ومع ذلك فهي الآن تركب الموجة وتهاجم دول أوروبا بسبب فشلها في معالجة أزمة اللاجئين السوريين.
كما لا تكاد تسمع نقداً موجهاً إلى إيران، التي لعبت، ولا تزال، الدور الأساسي في إشعال برميل البارود السوري، والسعي للانتصار للشيعة في العراق والعلويين في سوريا بغض النظر عن الخسائر والأرواح والضحايا في الدولتيْن الشقيقتيْن، بل كادت تستنسخ التجربة الدامية ذاتها في اليمن الشقيق حتى تصدت لها دول مجلس التعاون حفاظا على أرواح ملايين اليمنيين. والمؤكد أن طهران لا يهمها في سوريا سوى إنقاذ حليفها والحفاظ على مصالحها ومع ذلك فلا صوت أو قلم من هؤلاء يتناولها بسوء.
لم يوجه أحدهم أيضا عتاباً لروسيا أو الصين، وهما الدولتان اللتان عرقلتا كل صيغ الحل للأزمة السورية في مجلس الأمن منذ عام 2012، بل إن روسيا تبدو سعيدة بتدفقات اللاجئين السوريين على اقتصاديات أوروبا التي تئن تحت وطأة أزمات مالية طاحنة، لإدراكها أن هؤلاء اللاجئين سيجبرون أوروبا على التعاون مع روسيا في أوكرانيا، من أجل ضمان تعاون مماثل من موسكو في إيجاد حل ينهي تدفقات اللاجئين السوريين، وهكذا تدور الصفقات في وضح النهار، ولكن للأسف وقع الأشقاء في سوريا ضحية لتجار السياسة والدين.
ومن المثير للسخرية أن أحد الكتاب العرب الذين ينعمون بالضباب اللندني قد وجه عتاباً حانياً إلى خطباء جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، يلومهم فيه على عدم مطالبتهم دول مجلس التعاون باستقبال اللاجئين السوريين، ولكنه لم يطالب هؤلاء الخطباء بضرورة وقف الصراعات الدموية التي يخوضونها في سوريا وليبيا، وأعمال العنف التي يرتكبونها في دول مثل مصر وغيرها، أليس وقف العنف مساوياً لاستقبال اللاجئين أيها المنافقون؟ أم أن القتل والذبح وسفك الدماء بات أقل بشاعة من مشاهد قطارات اللاجئين؟