تناول الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى فى خطابه الأخير بمناسبة المولد النبوى الشريف قضايا عديدة تتجاوز أهميتها النطاق المحلى المصرى لتطاول العالمين العربى والاسلامي، وقد لفت انتباهى من بينها ثلاث قضايا أو أفكار أساسي،ة يمكن اعتبارها مداخل جوهرية لمعالجة الأزمات الحاصلة فى كثير من المجتمعات العربية والاسلامية، وليس فى المجتمع المصرى فقط.
وفى مقدمة هذه القضايا فكرة الحرية المسئولة فى الاسلام، وهى قضية غائبة تماماً عن أجندة النقاشات فى الفضائيات ووسائل الاعلام وقنوات التوعية والتنشئة الاجتماعية الأخرى فى كثير من الدول العربية والاسلامية، لاسيما أن السلوكيات الفردية قد اخترقت حدود «الحرية المسئولة» خلال السنوات القلائل الأخيرة، وبات التجاوز اللفظى والسلوكى الشغل الشاغل لشريحة كبيرة من الجمهور، الذى يتبادل هذه التجاوزات عبر وسائل الاتصال، وينتظرها مع إشراقة كل يوم جديد!!
لم تعد هناك ضوابط وتقاليد إعلامية فى كثير من وسائل الاعلام العربية، فيما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى ساحة للفوضى غير الخلاقة، ورمزا للتدهور الاخلاقى والفكرى والثقافى، الذى انزلق إليه كثير من الشباب العرب، ومن ثم فإن فكرة «الحرية المسئولة» بحاجة إلى أن تترجم على أرض الواقع، واعتقد أن ذلك لن يتم ما لم يتم تأطير الفكرة بأسيجة وأدوات قانونية وتشريعية تحدد هوامش الحريات الفردية وتطبق بدقة من أجل معاقبة المتجاوزين بصرامة، وهى مرحلة لازمة حتى يعتاد الجميع عدم تجاوز الخطوط الهلامية للحريات ويتم ضبط إيقاع السلوكيات العامة والخاصة داخل المجتمعات.
القضية الثانية التى لفتت انتباهى فى خطاب الرئيس المصرى تتمثل فى فكرة «التعايش السلمى» بين الأديان والأجناس والأعراق وهى مطلب أساسى ملح من أجل معالجة الأوضاع المضطربة فى كثير من الدول العربية والاسلامية، فلا مناص من أن تتعايش شعوب هذه المنطقة وفق قاعدة قبول الآخر المختلف فى الرأى والدين والعرق والجنس ومن دون ذلك لا جدوى من أى جهود تبذل على صعيد البحث عن بدائل ومخارج وحلول لأزمات المنطقة مهما تعاظمت هذه الجهود وأياً كانت جديتها وأطرافها.
كما تناول خطاب الرئيس المصرى أيضا مسألة «إتقان العمل» معتبراً انها البوابة الرئيسية لعودة الأمة الاسلامية كى تتبوأ مكانتها اللائقة بين الأمم، وهذا أمر لاجدال فيه، فالمؤكد أن إتقان العمل والتفانى فيه قيمة جوهرية فى الدين الاسلامى الحنيف، ولكنها غائبة أو مغيبة ـ للأسف ـ فى كثير من المجتمعات العربية والاسلامية، حيث لم يعد العمل وبذل الجهد ساحة للتنافس والترقى الاجتماعى فى ظل انتشار الأبواب الخلفية وتغلغل الفساد والمحسوبية وتراجع قيمة العمل ذاته ورهان الكثيرين على هذه «الأبواب الجديدة» التى لعبت دوراً جوهرياً فى انتشار الإحباط واليأس بين الشباب وأسهمت من دون شك فى تراجع قيمة العمل الجاد والتنافس الشريف من أجل بلوغ الأهداف وتحقيق الطموحات.
هذه القيم المجتمعية ـ الدينية المهمة التى دعا إليها الرئيس المصرى فى خطابه الأخير هى بالفعل طوق الإنقاذ والسبيل لعلاج الكثير من أمراض المجتمعات العربية والاسلامية، مثلما كانت هذه القيم أدوات أساسية استخدمتها مجتمعات ودول عدة لبلوغ مستويات من التقدم والتطور والنمو فى العقود والسنوات الأخيرة، حيث بات التنوع والتعايش واحترام قيمة العمل أهم ركائز الأمن والاستقرار والتقدم فى المجتمعات المتطورة التى ينظر الجميع إلى تجاربها التنموية بإعجاب وتقدير.
قد يعتبر البعض أن الدعوة إلى هذه المباديء والمثل لن تترجم فى الواقع فى ظل الصعوبات المعيشية والتنموية التى تعانيها بعض المجتمعات والشعوب العربية، ولكنى اعتقد أن الدفع فى هذا الاتجاه يعد دعوة انسحابية وهروبا من الواقع، وتنصلا من مسئولية المثقف والسياسى تجاه أبناء وطنه، بل إن مثل هذا القول ليس سوى تأجيج للنقاش وتنصل من نتائجه، وأقرب إلى جدلية «البيضة والدجاجة» وأيهما أسبق؛ فليس هناك مفر من غرس القيم الايجابية فى المجتمعات العربية والاسلامية من أجل الهروب من هذا الواقع المجتمعى التعس الذى نعايشه عبر وسائل التواصل الاجتماعى وفى الكثير من شوارع المدن العربية، والذى انحدرت فيه الأخلاق إلى مستويات متدنية ودرجات يصعب معها القول إن ثمة أمورا ايجابية يمكن أن تنتجها هذه الأجواء، سواء على صعيد الحريات الفردية والجماعية وغياب الحدود الناظمة لهذه الحريات، أو فى التطرف والتحريض وموجات الإقصاء والتهميش للآخر سواء كان هذا الإقصاء قائما على أسس دينية أو عنصرية أو عرقية أو حتى قبلية، ناهيك عن أن غياب قيمة العمل أو تغييبها قد قضى على ماتبقى من فرص للنجاة من هذا الواقع. وإذا كان خطاب الرئيس المصرى يلامس قيما مهمة للتطور الانسانى للمجتمعات، فإن من المفترض أن تلتقط مؤسسات التنشئة الاجتماعية هذه الرسائل وتعمل على تحويلها وترجمتها إلى برامج عمل وخطط تنفيذية وفق أسس علمية مدروسة، وصولاً إلى تحقيق الأهداف المتوخاة من وراء الحديث عنها، ولكن ما أراه ـ كمراقب ـ أن لدينا إشكالية عميقة فى تحليل مضمون الخطب السياسية للقادة والرؤساء، وأحد أسباب هذه الإشكالية يرتبط بقضية التابع والمتبوع والعلاقة المرتبكة بين الاعلام التقليدى والاعلام الجديد، وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي.
ما أقصده تحديداً أن الاعلام التقليدى فى كثير من الدول العربية والاسلامية بات يمضى وراء اتجاهات وسائل التواصل الاجتماعى وارتضى أن يكون تابعاً لها وناقلاً منها، متنكراً لوظيفته ودوره الرئيسى فى المجتمعات، ومتجاهلاً أن معدلات انتشار «الانترنتب» فى كثير من الدول العربية لا تزال أقل بمراحل عن نظيراتها فى العالم المتقدم، ما يعنى أن مجاراة هذه الوسائل فى اهتماماتها وتحيزاتها الاعلامية ليس سوى استسلام لواقع صعب وتغييب لقيمة العمل فى مهنة الاعلام أيضاً.
وفى الأخير، أقول إن خطاب الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى بمناسبة المولد النبوى قد تضمن قضايا مجتمعية ودينية بالغة الأهمية، لم أجد لها صدى فى النقاشات الاعلامية والتحليلات السياسية، وهو أمر يستحق وقفة تأمل حقيقية، فالأمم الساعية إلى النهوض من كبوتها الطامحة إلى بناء مستقبلها لابد وأن تبحث عن حلول جادة ومخارج حقيقية لإشكالياتها التنموية، التى أشار الرئيس المصرى إلى بعضها فى خطابه الأخير.