لا شك أن ما يحدث في مصر يؤثر في بقية العالم العربي والإسلامي، فمصر هي قلب العروبة وحامل راية الدفاع عنها وصونها، وهذه حقيقة تثبتها الوقائع والأحداث، وليست شعارات تاريخية، ولا مجال في ذلك للمزايدة والمساومات، ولذا فليس من الغريب أن نتابع - كمحللين ومراقبين وباحثين عرب - الشأن المصري باهتمام شديد، وإذا أضفنا إلى ذلك ما ورثناه في دولة الإمارات العربية المتحدة من حب عميق لمصر وشعبها غرسه فينا المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه"، فإن هذا الاهتمام يتحول إلى حالة فريدة من الارتباط الوجداني بهذا البلد العربي العريق وشعبه، وما يدور بداخله وما يؤثر فيه سلبًا وإيجابًا على حد سواء.
ربما كانت هذه مقدمة لازمة لمقالي الأول في موقع "فيتو"، الذي يحظى بانتشار جماهيري ملحوظ، والأمر لا يتعلق بالتمهيد لمقالي، بقدر ما يتعلق بمحاولة بناء جسور التواصل والتفاهم مع قراء الموقع الأعزاء، وكي أستبق أي تساؤلات حول ما وراء اهتمامي - كباحث إماراتي - بالشأن المصري.
وفي صميم الموضوع، أقول إنني أتابع أداء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ بداية حكمه، وبالقدر ذاته أتابع أيضا مؤشرات شعبية الرئيس، ليس لأمر يخص الرئيس المصري ذاته، الذي أدرك شعبيته الواسعة في مصر والعالم العربي، وبالأخص في دولة الإمارات، ولكن لأن جزءا من اهتماماتي البحثية في مجال الدراسات الإستراتيجية يتعلق بقياس تأثيرات الأداء الشخصي على معدلات شعبية القادة والرؤساء.
ومن هنا، وجدت أن أداء الرئيس عبد الفتاح السيسي يحظى بسمات وخصائص تستحق الدراسة العلمية الدقيقة؛ حيث لفت انتباهي منذ البداية أن الرئيس السيسي يؤدي في خطاباته السياسية وتصريحاته الإعلامية بشكل معين يعكس ذاته وما تنطوي عليه شخصيته من أبعاد وسمات دون أن يستغرق في الالتفات إلى آراء بعض منتقدي هذا الأداء، ولو أنه قد استجاب للكثير من الآراء لربما فقد هذه الميزة الإيجابية الهائلة.
استطاع الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يمازج بين الجوانب السياسية والإنسانية في أدائه الخطابي بشكل فريد، فلم يكن الأداء السياسي بمعزل عن السمات الإنسانية، ما أنتج بمرور الوقت "شخصية" لها بصمة مميزة، بدليل هذا الكم الكبير من الجدل والنقاشات التي تعقب أي خطاب أو تصريحات تصدر عنه، والمسألة هنا لا تقاس بمن ينتصر في أي سجال أو حتى صراع "فيس بوكي" أو "تويتري" بل تتعلق بالأساس بمقدرة الشخصية ذاتها على استنفار طاقات المؤيدين والمعارضين على حد سواء، وهذه ميزة تعكس حجم التأثير سواء اتفقت الغالبية معه أو اختلف البعض.
عندما تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرًا عن علاقته بمنصبه الرئاسي، استطاع أن يصل إلى القلوب ويعبر عن مكنون ذاته بكلمات سياسية وإنسانية بسيطة قادرة على بناء حالة من التواصل مع مستمعيه، مثيرًا بذلك نوعا من الجدل حول مضمون الكلمات وفحواها ومراميها، وهذا الأمر خارج نطاق نقاشي هذا، ولكن ما يهمني هنا، أنه لا أحد يختلف على أن الكلمات ذاتها وصلت للجميع مع تباين درجات ومستويات وأهداف "الاستقبال" ذاته، الذي يخضع بشكل مؤكد لحسابات "المتلقي" وأهدافه وثقافته ونمط تفكيره، ولا يستطيع "المرسل" أن يتحكم في هذا الأمر كثيرًا.
وربما يكون من اللافت، أن أكثر ما يزعج معارضي الرئيسي السيسي أداؤه ذاته رغم كم السهام التي يوجهونها إلى هذا الأداء، فهم يدركون التأثير الجماهيري لـ"بناء الشخصية" واستمراريتها، لاسيما أن شريحة من هؤلاء المعارضين ينتمون إلى تنظيمات أيديولوجية تدرك تمامًا "سحر القيادة" وجاذبيتها وتأثيرها الطاغي في الجمهور، ومن ثم فقد حاولوا مرارًا إثارة اللغط والجدل بطرق مختلفة وعبر استخدام أدوات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد للنيل من "الصورة النمطية" وبعدها الإنساني، ولكن باءت مساعيهم بالفشل، ومن ثم فقد انتقلوا إلى التشكيك في الجانب السياسي وفعاليته!!
وأنا هنا لا أحلل الشخصية ذاتها أو حجم تأثيرها، ولكني أناقش تأثيرات الصورة النمطية بشقيها السياسي والإنساني، فمقدرة القادة والزعماء على بناء نوع من التواصل الإنساني مع شعوبهم تثير اهتمامي، فهؤلاء القادة ينتمون إلى مدرسة عريقة لها روادها التاريخيون الأوائل الذين حظوا بالتفاف شعبي منقطع النظير ودعم جماهيري لا ينقطع لسياساتهم، ومن هؤلاء على الصعيد العربي القائد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي امتلك "كاريزما" فريدة جعلت منه - ولا تزال - أبا روحيا للشعب الإماراتي، ورمزا تاريخيا للدولة، وهناك أيضًا الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي كانت خطبه ومواقفه تثير حماس عشرات ملايين العرب من المحيط إلى الخليج.
هذه المقدرة على المزج بين "السياسي"و "الإنساني" لدى القادة والزعماء، تتوافر بوضوح في ساسة وقادة قلائل، منهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في دولة الإمارات، وهو من ورث هذه السمات القيادية الفريدة عن الوالد الراحل، ويستطيع أن يحرك مشاعر شعبه بكلماته الصادقة التي يلمس فيها الجميع عزيمة القائد وقوته، مضافًا إلى ذلك قلب إنسان ينبض بحب بلده وشعبه.
خلاصة القول، إن القائد عندما يتحدث إلى شعبه أو حتى العالم الخارجي ترتبط مستويات صدقيته وتأثيره الخطابي بجوانب وأبعاد أخرى، في مقدمتها الصدق مع النفس والجدية في العطاء والإخلاص في العمل.