وسط كل التفاعلات والأنشطة السياسية والدبلوماسية العربية والإسلامية للرد على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حيث عقدت المؤتمرات وصدرت البيانات والتصريحات وكلمات الشجب والإدانة والاستنكار باهون وأقسى العبارات وغير ذلك، ووسط هذا كله لم يخرج الرد السياسي والدبلوماسي العربي والإسلامي عن البدائل والمقترحات والأفكار المعتادة في أدبيات وموروث عملية السلام بالشرق الأوسط منذ عقود مضت.
الرهان على أفكار مثل تراجع الإدارة الأمريكية عن قرارها أو سحبه، أو لعب الدول الأوروبية دور أكبر في إقناع الجانب الأمريكي بضرورة التراجع عن موقفها بشأن القدس، يبدو مثل الجري وراء السراب في ظل الظروف الراهنة.
لا أقول إن مواصلة العمل السياسي داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الامن هدر للوقت، بل العكس هو الصحيح يجب مواصلة العمل على هذا الدرب لمراكمة مواقف أممية جديدة ترتب مزيد من الضغوط على الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، ولولا أن هذه المواقف تفرز ضغوط هائلة على الطرفين لما صدرت هذه المواقف الغاضبة من تل أبيب وواشنطن حيال ما يدور في مجلس الأمن والأمم المتحدة بشأن القدس والحقوق الفلسطينية.
قناعتي أن الذهاب لمجلس الأمن الدولي مؤخرًا كان مجديًا سياسيًا رغم "الفيتو" الأمريكي، بل حقق مكاسب سياسية ربما لا تقل أهمية عن صدوره من المجلس، فالمواقف الدولية اتضحت تمامًا وتكشفت الرؤية، بل ربما لو ان القرار قد صدر بصيغته لتوقفت او تباطأت الجهود الدبلوماسية العربية بعد أن وصلت لمنتهاها بحسب ما قد يعتقد في هذه الحالة.
استخلاص الحقوق الفلسطينية يتطلب الآن العمل على مسارات متعددة، أولها ضرورة التفكير في بدائل خلافة خارج صندوق الأفكار التقليدية، التي تراوح بين العمل عبر منصة الأمم المتحدة والدعوات للانتفاض وتثوير الشارع الفلسطيني بما يعنيه ذلك من نزيف دماء لا يوازيه عمل دبلوماسي أو سياسي جاد لاستثماره بشكل جاد في انتزاع الحقوق الفلسطينية المشروعة، ولكن المطلوب الآن أفكار جديدة تطرح للعمل على مسارات جديدة لبناء حالة من التأثير والضغط الدولي الفاعل على إسرائيل والولايات المتحدة معًا، واستغلال حالة السيولة في العلاقات الدولية وضعف هيكلية النظام الدولي، الذي يمر بمرحلة تشكَل تشهد صعودًا جديدًا لقوى مؤثرة ستلعب أدوار مؤثرة في بنية هذا النظام خلال السنوات والعقود المقبلة.
من هذه البدائل الخلاقة، قرأت أن هناك تفكير فلسطيني في منظور جديد للبحث عن حل سياسي يقوم على عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، وبمشاركة الصين وروسيا ودول مجموعة "بريكس"، التي باتت تلعب دورًا متناميًا في صناعة القرار الدولي.
هذا التوجه جيد ومنطقي ولكنه يتطلب دراسة جيدة للتحولات في العواصم، فهناك مياه كثيرة جرت، ولا تزال تجري، في قنوات المواقف الدولية حيال قضايا مثل القضية الفلسطينية، وعلينا دراسة هذه التحولات جيدًا.
الهند وحالة مهمة من تحولات المواقف والاستراتيجيات، حيث ذكرت تقارير إعلامية أن أكثر من 10 سفراء عرب طلبوا من الهند توضيح موقفها من اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد أن أشار صمتها إلى تغير محتمل في موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، ولم تعلن وقوفها في صف أحد. وقالت وزارة الخارجية الهندية، إن موقف الهند ثابت ومستقل عن مواقف أي طرف ثالث. ولم يشر البيان إلى القدس!
الهند واحدة من دول ما كان يعرف بكتلة عدم الانحياز صاحبة المواقف الدولية الشهيرة في الدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم، ولكن المعطيات تغيرت، وحدثت تطورات كثيرة في إطار العلاقات التي أصبحت استراتيجية بين الهند وإسرائيل، وانتقلت الهند إلى علاقات أكثر علنية مع إسرائيل، وتعمقت العلاقات الأمنية والعسكرية بين الطرفين.
هناك أيضًا ورقة الواقع الديموجرافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين، التي تتطلب توظيفًا سياسيًا مهمًا، حيث تشير التقرير إلى أنه في أوائل عام 2016 بلغ عدد اليهود في فلسطين التاريخية، أي من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، نحو 6,4 مليون يهودي. وفي ذات الفترة الزمنية تقريبًا، بلغ عدد الفلسطينيين 6,4 مليون نسمة، أي حالة فريدة من التوازن الديمجرافي.
المعروف أيضًا ان نسبة الزيادة السكانية وتعداد المواليد في الجانب الفلسطيني أعلى بكثير من الجانب الإسرائيلي، وبالتالي فإن نسبة زيادة السكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة باتت لمصلحة الفلسطينيين ابتداء من عام 2018 ن ما يفتح المجال لتوظيف هذه المعطيات كورقة ضغط سياسية مهمة لمصلحة الجانب الفلسطيني، حيث يفترض أن يكون خيار حل الدولتين في مصلحة إسرائيل والفلسطينيين معًا، كي لا تصبح إسرائيل في مواجهة طوفان بشري فلسطيني بمرور السنوات، او تصبح في وضعية "ابرتهايد" (حكم عنصري) منبوذة من المجتمع الدولي.