يحلو للبعض بين الفينة والأخرى القفز إلى نتائج واستخلاص مخرجات لا علاقة لها بالواقع في موضوعات عدة من بينها مستقبل مجلس التعاون منظمة إقليمية تربط بين الدول الست الأعضاء وشعوبها بما تتمتع به هذه الدول من روابط تاريخية وإرث ثقافي وحضاري ومصالح وتطلعات وأهداف مشتركة.
ولا يخفي على أحد أن هناك أطرافًا إقليمية لا تشعر بأي ارتياح إزاء وجود مجلس التعاون ودوره المؤسسي الإقليمي، وفي مقدمتها النظام الإيراني الذي عمل طويلًا على تخريب العلاقات بين دول المجلس تارة بالوقيعة بين دوله، وبالسعي لاستقطاب بعضها في علاقات ثنائية خاصة لجذبها بعيدًا عن البقاء في المنظومة الخليجية تارة أخرى، ولكن المحصلة أن مجمل هذه المخططات لم تفلح، حتى الآن، في تحقيق أهدافها، رغم الاعتراف بأنها قد عطلت مسيرة المجلس نسبيًا بتعكير صفو الأجواء الإقليمية وأيضًا بتشجيع بعض أعضائه مثل قطر على تبني سياسات وسلوكيات معادية لمصالح دول المجلس وشعوبها.
وإذا كان من الطبيعي أن تواجه أي منظمة أو تكتل إقليمي أو دولي تحديات بقاء كتلك التي يواجهها في المرحلة الراهنة، على سبيل المثال، حلف الناتو، مع اختلاف طبيعة المنظمة وبالتالي اختلاف التحديات والظروف، فإن قدرة المنظمات والتكتلات على البقاء ومعالجة التحديات والتصدي لها يمثل شهادة بقدرتها على الاستمرار وقابلية أهدافها الاستراتيجية لأن تبقى مظلة جامعة للدول الأعضاء وفق إطار مصالحي يفوق في مردوده أي اعتبارات أو تباينات عابرة أو طارئة.
والحقيقة أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد أثبت قدرته على الثبات في مواجهة التحديات غير مرة، طيلة سنوات وعقود سابقة منذ تأسيسه في مايو عام 1981، بل إن المجلس قد واجه ظروفًا سابقة أصعب بمراحل من تلك التي يواجهها في المرحلة الراهنة على خلفية الأزمة الحاصلة مع قطر، ولما كان المجلس قد استطاع عبور أزمات سابقة أعتى وأشد، فإن من البديهي أن يستطيع القفز على الأزمة الراهنة ومعالجتها بالهدوء والحكمة المتوارثة لدى قادة دول المجلس بما عرف عن قادتنا وشعوبنا من حكمة أصيلة وحرص على إعلاء مصالح شعوب دول المجلس باعتبارها البوصلة الحقيقية التي توجه العمل الخليجي المشترك.
وإذا كان الحديث عن مستقبل مجلس التعاون يستوجب مناقشة هذه النقطة الشائكة المتعلقة بآثار الخلاف القائم مع قطر على مستقبل المجلس، فإن البيان الختامي الصادر عن الدورة الأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربي (إعلان الرياض) والتي عُقدت مؤخرًا قد تضمن إشارات جلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل المجلس، ومن أهم هذه الإشارة تجديد قوة الروابط والتحالف الخليجية بإعادة التأكيد على مبدأ الأمن الجماعي بين دول المجلس في مواجهة الأخطار والتهديدات، وتذكير جميع الأطراف المعنية باتفاقية الدفاع الخليجي المشترك التي تربط دول المجلس، وهو تأكيد يكتسب أهميته من توقيته المشحون بالتوترات المتفاقمة مع قوى إقليمية تتربص ببعض دول المجلس.
وما يعزز هذه التأكيدات أنها جاءت مصحوبة بتشديد على استكمال كافة الإجراءات اللازمة لضمان أمن وسلامة أراضي دول المجلس ومياهها الإقليمية ومناطقها الاقتصادية، وفقًا لاتفاقية الدفاع المشترك، مع التأكيد على أهمية دور المجتمع الدولي في الحفاظ على حرية الملاحة في الخليج العربي والمضايق الدولية أمام أي تهديد، والعمل مع الدول الصديقة والشقيقة لمواجهة أي تهديدات عسكرية أو أمنية، ما يعكس حرصًا خليجيًا على الشراكة الاستراتيجية مع المجتمع الدولي في تأمين الممر الملاحي بالخليج العربي.
تطرق البيان الختامي كذلك إلى رؤية استشرافية لمستقبل المجلس حين تحدث عن الإقرار بما حققه المجلس طيلة مسيرته التاريخية من إنجازات نوعية، منوهًا إلى أن التحديات المستحدثة والمستقبلية تستوجب الارتقاء بآليات العمل المشترك وتفعيل الشراكات الاستراتيجيات وآليات التعاون التي تربط منظومة مجلس التعاون بين بعضها البعض وبينها وبين الدول الشقيقة والصديقة، وكذلك تعزيز العمل الخليجي المشترك والارتقاء بآلياته بما يتوافق مع المتغيرات الإقليمية والدولية.
ثمة نقطة أخرى تتعلق باستشراف آفاق مستقبل المنظومة المؤسسية الخليجية وردت في تأكيد البيان الختامي على استكمال منظومة التشريعات والقرارات اللازمة لتنفيذ ما تبقى من خطوات التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، بما في ذلك الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والتكامل المالي والنقدي وصولًا إلى تحقيق المواطنة الخليجية الكاملة والوحدة الاقتصادية بحلول عام 2025، والسعي لتحقيق مراكز متقدمة عالميًا عن طريق إرادة تكاملية تحت مظلة مجلس التعاون لصياغة أساليب عصرية في توظيف ملفات المستقبل وتضمينها في كافة الخطط المطروحة، وهذه التأكيدات هي بمنزلة خارطة طريق مهمة للغاية لجهة منح قوة دفع جديدة لمسيرة التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وأهمية ذلك لكونه يأتي في وقت تتزايد فيه التوقعات السلبية بشأن آفاق خطط التكامل الاقتصادي الخليجي ليس فقط بسبب أزمة قطر، ولكن أيضًا بسبب تباطؤ تنفيذ بعض تلك الخطط في الآونة الأخيرة لأسباب وظروف واعتبارات مختلفة.
وفي ضوء قراءة متأنية لإعلان الرياض، فإنه يوحي بأن القمة الأخيرة قد انطوت على جرعة اوكسجين قوية للبناء الخليجي، حيث تم إعادة التأكيد على ان الهدف الأعلى للمجلس هو تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولًا إلى وحدتها، ما يعني أن الهدف لا يزال هو محور عمل قادة المجلس، وان انعقاد القمم ليس هدفًا بحد ذاته للحفاظ على بقاء المجلس واستمراريته، بل إن هناك هدف يسعى إليه الجميع وهو الوصول إلى وحدة دول وشعوب مجلس التعاون التزامًا برؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والتي أقرها القادة في ديسمبر عام 2015، والتي تضمنت أهمية استجابة المجلس لتحديات كل مرحلة تاريخية من خلال مرونة استراتيجية واستشراف مدروس لتحديات المستقبل، وتحقيق مستهدفات هذه الرؤية من خلال تحركات محددة في اتجاهات عدة منها التكامل العسكري والأمني، وتحقيق الوحدة الاقتصادية، واستكمال متطلبات التنافسية العالمية من خلال مسارات محددة منها التعاون المشترك لاستغلال العلوم والتكنولوجيا في إيجاد الحلول للتحديات المشتركة مثل تأمين المياه والطاقة الجديدة والمتجددة والزراعة وتطوير البنى التحتية وتشجيع ثقافة الابتكار وريادة الأعمال من أجل تمكين الشباب وتحديث التشريعات القانونية والتنظيمية بما يسهم في جذب المبتكرين وتشجيع الاستثمارات الخارجية والمشروعات المشتركة بين شباب دول مجلس التعاون.
ولا شك أن رسم خارطة لتحديات المستقبل ومتطلباته يؤكد حرص قادة المجلس على دعم مسيرة مجلس التعاون والإبقاء عليه كمنظومة خليجية مشتركة تتمتع بأقوى عوامل الترابط الممكنة لبناء الكيانات القوية بما يعود بالفائدة والخير العميم على شعوبها كافة.