جاء البيان الختامي الصادر عن القمة الأخيرة لقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مؤكدا قدرة المجلس على التماسك والبقاء والتصدي للتحديات في أصعب الظروف التي يواجهها منذ تأسيسه، حيث اشتمل البيان على جملة من القضايا والموضوعات، من أهمها، برأيي، التأكيد على قوة وتماسك ومنعة مجلس التعاون ووحدة الصف بين أعضائه، مفسرا ذلك بالإحالة إلى ما يربط دول المجلس وشعوبها من علاقات خاصة وسمات مشتركة أساسها العقيدة الإسلامية والثقافة العربية والمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوب دول المجلس، والتأكيد أيضا على وقوف دول المجلس صفا واحدا في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي دولة من دول المجلس.
أهمية هذا التأكيد أنه يأتي في وقت تتكاثر فيه التحليلات والتوقعات حول مصير المجلس كمؤسسة خليجية استطاعت البقاء وإثبات الذات وبناء هوية خليجية واضحة وقادرة على التعامل مع العالم كصوت معبر عن شعوب دول «التعاون». ولما كانت هذه التوقعات التي ينطوي بعضها على رؤى متسرعة، وبعضها الآخر على أحلام وتمنيات لدوائر إقليمية لا تتمنى الخير لدول المجلس وشعوبه، فإن إعلان هذه التأكيدات يضع الأمور في نصابها ويزيل الغموض عن كثير من الالتباسات التي تستند على ملف الخلاف مع قطر في بناء توقعات متشائمة بشأن المنظومة المؤسسية الخليجية، فالمنطق يقول إنه منذ بداية الأزمة والجميع، ولا سيما الثلاثي الخليجي (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين) على النأي بالمجلس عن تأثيرات الخلاف مع قطر، لأن هناك قناعة راسخة لدى قادة دول المجلس بأن الخلاف سيزول يوما ما وستنقشع غمامته، وتبقى مصالح شعوب المجلس فوق أي اعتبار.
ولا شك أن التأكيد على مبدأ التكامل والتماسك والترابط في مواجهة كل التحديات والمخاطر، وكذلك التشديد على مبدأ الأمن الجماعي واتفاقية الدفاع المشترك، وأن أمن دول المجلس وحدة لا تتجزأ، وأن أي اعتداء على أي من الدول الأعضاء هو اعتداء عليها جميعا، وإقرار من القادة باستمرار العمل المشترك في مواجهة التحديات الاستراتيجية، وتأكيد قوي على مواجهة أي تهديدات بشكل جماعي، وهي مسألة مهمة في ظل هذا الكم الكبير من الأقاويل والتكهنات حول قوة ومتانة العلاقات بين دول المجلس في مواجهة تهديدات ماثلة مثل تلك التي يصدرها النظام الإيراني وتنظيمات التطرف والإرهاب، وغير ذلك من تهديدات تستهدف النيل من أجواء الأمن والتنمية في دول «التعاون».
صدر البيان الختامي أيضا مشتملا على الموقف الخليجي الثابت إزاء قضية الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، وحيث جدد البيان موقف دول المجلس الثبات والداعم بقوة لموقف دولة الإمارات وحقها المشروع بشأن استعادة جزرها المحتلة، عن طريق المفاوضات المباشرة أو إحالة القضية للتحكيم الدولي، وأهمية استجابة النظام الإيراني لدعوات الإمارات المتكررة في هذا الشأن من أجل أحد أهم ملفات ومسببات التوتر عبر ضفتي الخليج العربي، وإثبات حسن النوايا الإيرانية بما تنطوي عليه الاستجابة من دلائل قوية على رغبة النظام الإيراني في ترجمة أقواله إلى أفعال وسلوك إيجابي تجاه دول الجوار.
أكد البيان الختامي أيضا مساندة دول المجلس للمملكة العربية السعودية بشأن الاعتداء التخريبي الذي تعرضت محطات الضخ لشركة أرامكو باستخدام أسلحة إيرانية، ودعا المجلس المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته في إدانة من يقف وراء ذلك والتصدي لهذه الأعمال الإرهابية التي تمس عصب الاقتصاد العالمي، مشيدا بمعالجة القيادة السعودية للموضوع من خلال دعوة خبراء دوليين من الأمم المتحدة للوقوف على الحقائق والمشاركة في التحقيقات، ومؤكدا وقوف دول المجلس مع ما تتخذه المملكة من إجراءات في ضوء ما تسفر عنه تلك التحقيقات، وبما يكفل أمنها واستقرارها.
وبالفعل، فإن هذا الاعتداء الإجرامي لا يستهدف أمن المملكة واستقرارها فقط، بل الأخطر أنه يستهدف عصب الاقتصاد العالمي، لذا فإن من الحكمة أن يشارك المجتمع الدولي في التوصل إلى الحقائق المرتبطة بالأطراف المتورطة في الاعتداء، ومن ثم تجمل مسؤولية الرد والمشاركة الفاعلة في الحفاظ على أمن وحرية الملاحة في الخليج العربي والمضايق الدولية.
تناول البيان الختامي أيضا قضيتين مهمتين هما «المساعي الخيرة والجهود المخلصة التي يبذلها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، لرأب الصدع الذي شاب العلاقات بين الدول الأعضاء»، بما يعكس حرص القادة على مساندة جهود أمير دولة الكويت ليس فقط لكونها تستهدف إنهاء الخلاف مع قطر، ولكن أيضا لأن هذه الجهود تبقي الأزمة في إطار البيت الخليجي الموحد وتحول دول تدخل أطراف أخرى في رأب الصداع الخليجي، وهذه مسألة مهمة لأن هناك أمورا لا يفهمها ويقدرها حق قدرها سوى أهل الخليج، بما يتوارثون من قيم ومبادئ وعادات مشتركة، لا يجوز التخلي عنها لمصالح تكتيكية آنية، والمغامرة بخسارة إرث تاريخ طويل لمصلحة حسابات سياسية تخطط لها تنظيمات وجماعات ودول إقليمية تسعى منذ سنوات طويلة لتفكيك المنظومة الخليجية، ووجدت في تطلعات النظام القطري، للأسف، سبيلا ومدخلا لتحقيق أحلامها الواهية.
تضمن البيان الخليجي أيضا إشارة في غاية الأهمية لأزمة «سد النهضة» القائمة بين جمهورية مصر العربية الشقيقة وإثيوبيا، مؤكدا دعم المجلس لأمن مصر واستقرارها ومعربا عن دعمه للجهود الهادفة لتسوية النزاع بما يحقق المصالح المائية والاقتصادية للدول المعنية، ومثمنا الجهود الدولية المبذولة في هذا الشأن، ليؤكد قادة المجلس بذلك اهتمامهم بما يدور في محطيهم الإقليمي ومجالهم الحيوي، ولا سيما إذا تعلق الأمر بدولة عربية محورية لها ارتباط جوهري بأمن منطقة دول مجلس التعاون، وهي مصر، ولأن الموضوع أيضا يتماس مع دولة أفريقية صديقة لدول المجلس، ولعل الإشارة في هذا البيان هي بمنزلة رسالة مهمة سيلتقطها آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، الذي يبدي حرصا كبيرا على تطوير علاقات بلاده مع دول الخليج العربية.
وإذا أضفنا لما سبق ما يخص ملفي العراق وسوريا، وما ورد بشأنهما من تأكيد على الموقف الثابت لدول مجلس التعاون، فإن البيان الخليجي في مجمله أكد قدرة المجلس على مواصلة العمل وتجاوز الخلافات، وإثبات الذات كمنظمة إقليمية فاعلة، وقادرة على بلورة الرؤى المشتركة حيال التحديات الاستراتيجية المهمة ذات الصلة بأمن واستقرار دول مجلس التعاون وشعوبها.