لاشك أن أكثر ما يحتاجه أكثر من سبعة مليارات من البشر في الفترة الراهنة، حيث يشهد العالم تفشيًا مروعًا لفيروس "كورونا"، وهي فترة تتسم بالقسوة وتشوش الرؤى وتباعد الجهود والأفكار وانحسار التعاون الدولي، وحيث تعاني الاقتصادات والبشر والحجر جراء تبعات انتشار هذا الوباء، أكثر ما يحتاجه الجميع الآن هو بارقة أمل وأخبار ايجابية تشيع الأمل في امكانية تجاوز هذه المرحلة بكل آلامها ومعاناتها، فالجميع يعرف أن الحياة ستمضي على كل حال، ولكننا جميعًا بحاجة أيضًا إلى أن ترى ضوءًا في نهاية النفق، وأن نرى من يفكر ويخطط لمرحلة مابعد "كورونا"، باختصار تحتاج البشرية إلى ملهمين جدد يقودونها إلى دروب المستقبل وتجاوز آثار هذه المحنة.
ربما تكون شعوبنا العربية هي الأكثر احتياجًا لبث روح الايجابية وانتشال الشعوب من أجواء سلبية تكاد تسيطر على الجميع، فالعرب يحتاجون إلى بث الهمم واستنهاض الإرادات أكثر من غيرهم لأن هذا الوباء قد ضاعف هموم شعوبنا وأضاف إليها مصدر معاناة وآلام جديد فاقم أزمة الثقة بالذات العربية وبقدرة معظم دولنا وشعوبنا على النهوض من كبوتها، لذا يمكن بسهولة التقاط هذا المستوى الكبير من الشكوك وعدم الثقة في أي إعلان عربي عن جهود لاكتشاف مصل أو علاج للمصابين بفيروس "كورونا"، فالكثيرين ـ عبر وسائل التواصل الاجتماعي ـ يتشككون بل ويسخرون من أي تقارير تتحدث عن جهد عربي يبذل في سباق التنافس العلمي العالمي بحثًا عن طوق إنقاذ للبشرية من هذا الوباء، وكأن العرب لا قدرة ولا تاريخ عتيد لهم في مجالات الطب والصحة وغيرها من المجالات!
وقد قلت قبل ذلك أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي ـ رعاه الله ـ كان موفقًا ودقيقًا للغاية في الحديث عن "استئناف" الحضارة العربية خلال القمة الحكومية التي عقدت في فبراير عام 2017، فاستئناف دور العرب في مسيرة الحضارة الإنسانية مفهوم يعبر عن واقع تاريخي لا يمكن أن ينكره سوى جاحد أو كاره أو جاهل، ولذا فإنني استبشرت خيرًا بتأكيدات وكالة الإمارات للفضاء بشأن إطلاق "مسبار الأمل" في موعده خلال الأسابيع القادمة، وهو أول مسبار ترسله وكالة فضائية عربية لدراسة كوكب المريخ ومناخه.
"مسبار الأمل" لا يمثل فقط نقلة نوعية علمية في مجال استكشاف كوكب المريخ لأنه لايقتصر على دراسة الكوكب جيولوجيًا بل يستهدف دراسة طبقات الغلاف الجوي للمريخ لمعرفة أسباب فقدان غازي الهيدروجين والأكسجين في أول مهمة فضائية تزود المجتمع العلمي الدولي بصورة متكاملة للغلاف الجوي للكوكب الأحمر ، ولكنه يمثل كذلك تحولًا كبيرًا في صناعة كانت تسيطر عليها الدول الكبرى ووكالاتها الفضائية مثل "ناسا" الأمريكية ووكالة الفضاء الأوروبية وغيرها، في تعبير جلي عن استئناف فعلي لحضارة العرب انطلاقًا من الإمارات وعلى يد أبنائها الذين راهنت عليهم واستثمرت فيهم من أجل قيادة وتنفيذ هذا المشروع العلمي الرائد، الذي يحمل شعار "لا شىء مستحيل".
أكثر من 150 باحثًا وعالمًا ومهندسًا إماراتيًا يشاركون في مشروع "مسبار الأمل"، استطاعوا التغلب على التحديات الصعبة التي واجهت إتمام المشروع في موعده، حيث نجحت جهودهم في التغلب على التحديات الناجمة عن تفشي وباء "كورونا"، وما نتج عنه من إغلاق تام للدول حول العالم، حيث تم إجراؤها بنجاح إلى اليابان، حيث موقع الإطلاق للفضاء في جزيرة تانيغاشيما.
المشروع بحد ذاته يعني أن العلماء العرب قادرون على استعادة مجد الأجداد والمشاركة في مسيرة الحضارة والتقدم الإنساني بفعالية وكفاءة، ليذكروا العالم بسجل حافل للعلماء العرب الأقدمين في مجال الاكتشافات العلمية التي فتحت للبشرية آفاقًا علمية في مراحل تاريخية سابقة.
ويأتي إطلاق هذا المشروع العلمي في توقيت بالغ الأهمية حيث ثبت للجميع أن التقدم العلمي هو مفتاح وركيزة تقدم الأمم والدول، فالعالم الذي وقف قلقًا عاجزًا أمام تفشي فيروس "كورونا" بحاجة فعلية إلى ضخ جهود جديدة في مجال البحث العلمي فالعقول الجديدة تحمل دائمًا أفكارًا جديدة، وتأتي من خلفيات ثقافية وتعليمية وحضارية وتاريخية توفر لها رؤى وآفاق مختلفة تساعدها في بلورة تصورات ورؤى مبتكرة ستسهم بالتأكيد في توفير قوة دفع جديدة للجهود العلمية والبحثية العالمية الهادفة لحماية البشرية من الأوبئة والأمراض.
قناعتي أن العالم يحتاج بشدة في المرحلة التاريخية الراهنة إلى "روح الامارات"، وهذه الروح النابعة من فكر ورؤى قيادتنا الرشيدة، التي تحلم بعالم أفضل قائم على التعاون والتفاهم والعدل والمساواة والتسامح والتعايش بين بني البشر جميعًا، وهذه الروح تتجلى بشدة في هذه الأزمة التي روعت العالم وقداته، في حين واجهتها الإمارات، بعزم القيادة والشعب، وهذا الالتفاف الفريد بينهما، حتى أنها تركز على التخطيط الاستراتيجي لتجاوز تبعات الأزمة وبناء رؤية للمستقبل في ظل ما أفرزته من ظروف ومعطيات، حيث عقدت حكومة دولة الإمارات اجتماعًا عن بُعد في منتصف مايو 2020 تحت عنوان: "الاستعداد لمرحلة ما بعد كوفيد – 19"، بهدف تطوير منظومة العمل الحكومي في الدولة، ووضع استراتيجية الدولة لمرحلة ما بعد فيروس كورونا المستجد "كوفيد – 19"، وكان هذا الاجتماع رسالة مهمة تعني أن التصدي للوباء لا يجب أن يشغلنا عن التفكير والتخطيط فيما بعده، في تجسيد واضح لقوة الطاقة الايجابية التي تشع في سماء الإمارات، وتوفر لها القدرة على صناعة الأمل وبناء المستقبل.