اشعر بقلق شديد حينما أقرأ لبعض المحللين والمراقبين دعوات لتدخل مصر عسكرياً بشكل مباشر في الأزمة الليبية، ورغم ثقتي غير المحدودة في حكمة ورشادة قرار مصر، بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإنني أرى أن من واجبي مناقشة بعض الأمور التي يعفل عنها البعض في قراءة خارطة الأزمة الليبية وتأثيراتها.
لا شك أن الوضع في ليبيا ينجرف بسرعة نحو سيناريو لا تتمناه الدول العربية وفي مقدمتها الشقيقة مصر، الأكثر تأثراً بانتشار حشود الارهابيين والمتطرفين والمرتزقة الذين يجلبهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الجوار المصري قاصداً غرس شوكة مؤلمة في خاصرة في هذا البلد العربي الكبير. ولكن لاشك أيضاً أن قرارات الحرب لا تؤخذ في عجالة ولا تخضع لردود الأفعال، خصوصاً من لدن قيادة تتسم بالعقلانية والهدوء وتدرك جيداً معنى الحرب ومتطلباتها وعواقبها في مثل هذه الظروف.
قرارات الحرب بشكل عام تخضع لمحدد أساسي هو البيئة الاستراتيجية للصراع، بمكوناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وفي تحليل هذا العنصر يبدو موقف القيادة المصرية في غاية الدقة والحساسية، ولاسيما في ظل الخوف على مابذل في مصر خلال السنوات الأخيرة من جهود تنموية هائلة لإخراج مصر من كبوتها ووضعها في المكانة التي تليق بها حضارياً وتاريخياً وقومياً، بمعنى أن أي قيادة وطنية مخلصة في مثل هذه الظروف لن تغامر بسهولة بفتح جبهة صراع مع عدو طائش هدفه استدراج مصر لفخ ينشغل فيه الجيش المصري بمواجهة فلول الارهابيين العائدين من سوريا وغيرهم ممن يتم جلبهم من مناطق شتى من العالم.
باعتقادي أن تفادي فخ الاستدراج للفخ الليبي ليس السبب الأكثر أهمية في صناعة القرار المصري تجاه ليبيا، بل أن قائمة الأولويات الاستراتيجية المصرية في الوقت الراهن تتضمن تراتبياً ـ بحسب رأيي ـ التهديد الناجم عن فشل جهود التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة الأثيوبي واقتراب موعد بدء ملء السد كما أعلن الجانب الاثيوبي، ثم القضاء تماماً على التهديد الصحي للأمن القومي المصري الناجم عن انتشار فيروس "كورونا"، الذي يمثل خطراً داهماً على الاقتصاد المصري رغم محدودية أرقام الاصابات والوفيات مقارنة بدول أخرى لها نفس الظروف والتعداد السكاني، ولكن استمرار هذا الخطر الصحي يظل عنصر ضغط على قدرة الاقتصاد المصري على مواصلة النمو والانتعاش الذي كان عليه خلال مرحلة ماقبل هذه الأزمة، وبالتالي تصبح استعادة عوامل النمو والقضاء على احتمالية اتساع رقعة تفشي الوباء مسألة ذات أولوية قصوى بالنسبة لصناعة القرار الاستراتيجي المصري في المرحلة الراهنة.
أما ليبيا فهي ملف ذي حساسية استثنائية وأهمية كبرى لمصر لاشك في ذلك، ليس فقط في ضوء الجوار الجغرافي المباشر والحدود المشتركة التي يبلغ طولها نحو 1150 كم يقع عبء تأمينها بالكامل حالياً على الجانب المصري، فضلاً عن خطر إضافي ناجم عن تدخل تركيا تحديداً بشكل مباشر ورغبتها الدفينة في الاضرار بمصر وشعبها باستخدام ورقة تمويل الارهاب ودعم عناصره كي تقوم بالتسلل لمصر وتنفيذ عمليات ارهابية تقوض الأمن والاستقرار. وهناك حسابات واعتبارات مصالحية أخرى كثيرة لا مجال لذكرها في الرؤية الاستراتيجية المصرية تجاه ليبيا، ولكن هذا كله لا يجعل من التدخل العسكري المصري المباشر قراراً حتمياً ما لم ترى القيادة المصري في تطور الأوضاع هناك ميدانيا مايبرر سرعة التدخل لحسم الأمر والقضاء على هذا الخطر.
وتدفعني موضوعية الباحث، والحرص على مقدرات بلد عربي كبير بحجم مصر، للقول بضرورة ممارسة أقصى قدر من الصبر والتريث حيال تهور السلطان التركي حتى يمكن القضاء على مغامرته في ليبيا، لاسيما أن المؤشرات والشواهد تؤكد أن هذه المغامرة ستكون مقبرة لحياته السياسية الحافلة بالكوارث والمصائب، فبلد المختار عصية على أحلام السلطان، والشعب الليبي الشقيق لن يقبل خضوع السراج وعصابته ورفضه لكل المبادرات المخلصة التي تطرح لتسوية الأزمة الليبية وآخرها المبادرة المصرية التي تمثل بارقة أمل مهمة يجب الانطلاق منها للبحث عن مخرج آمن يعيد للشعب الليبي أمنه واستقرار ويحفظ ثرواته ويصون السيادة والوحدة الترابية لهذا البلد العربي الشقيق.
هناك بدائل وحلول عدة لمواجهة التوغل التركي في ليبيا، التي يجب أن تظل بلداً عربياً موحداً كي لا ينفرط عقد المنطقة وينفتح الباب على مصراعيه لصراعات وأزمات أخرى، ويجب الاسراع عربياً ـ وبشكل جماعي ـ بمواجهة الدول الأعضاء في مجلس الأمن بموقفهم المتخاذل حيال الخرق التركي العلني المتواصل لقرار المجلس بشأن حظر تسليح أطراف الصراع الليبي، مع مطالبتهم بضروة دعم المبادرة المصرية لتحقيق السلام وإجبار حكومة السراج التي طالما حظيت بدعم دولي بالانصياع لإرادة المجتمع الدولي.
يجب أن ينتبه العالم إلى خطورة تحول ليبيا إلى بؤرة تمركز جديدة لتنظيمات الارهاب، فإحياء "داعش" في ليبيا يعني خسارة فادحة للأمن والاستقرار العالميين وليس لمصر أو غيرها من الدول العربية فقط، وسيكون الصامتون أول من يتحمل فاتورة هذه الكارثة الجديدة، فجغرافيا ليبيا الشاسعة ستكلف العالم كثيراً في مطاردة الارهابيين، ناهيك عن اشتعال أزمة الهجرة غير الشرعية، كما يجب ان ينتبه العالم إلى خطورة ترك الحبل على الغارب للسلطان التركي للعبث بمصير سوريا وليبيا وتمويل الميلشيات الارهابية ونشر الحروب بالوكالة وتهديد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله.