تابعت في الآونة الأخيرة تطورات متسارعة تتعلق بالموقف المصري في أزمة "سد النهضة" الاثيوبي، حيث تبارى الكثير من المراقبين والمحللين في اثبات ونفي قدرة الشقيقة مصر على خوض صراع عسكري يتعلق بقضية تمثل شريان الحياة لأكثر من مائة مليون مصري، في وقت يتعرض فيه أمن الدولة المصرية لتهديد كبير على حدودها الغربية التي يتجاوز طولها أكثر من 1200 كم، جراء التدخل العسكري المباشر في ليبيا وما ينطوي عليه هذا التدخل من أغراض خبيثة تستهدف الضغط استراتيجياً على مصر والسعي لتقويض امنها واستقرارها من خلال العناصر الارهابية المدعومة، تسليحاً وتمويلاً من تركيا وأطراف أخرى مثل النظام القطري.
السجال والجدال حول قدرة مصر على التعامل مع هذه الأزمات الوجودية، التي تتزامن مع خطر تفشي وباء "كورونا" الذي انهك اقتصادات دول العالم أجمع، لا يقتصر على الأوساط السياسية والاعلامية، بل ينتشر أيضاً وبكثافة عبر وسائط "السوشيال ميديا"، بكل ما تنطوي عليه معالجاتها من استفزازات ومبالغات وتجاوزات للقيم الوطنية والمبادىء الأخلاقية المتعارف عليها.
ولذا، فإن مقالي هذا يركز على تناول حدود القوة المصرية في التعامل مع هذه الأزمات من وجهة نظري، كخبير سياسي، حيث اعتقد أن الدولة المصرية تدير ملف أزمة "سد النهضة" بحنكة ودقة شديدة، فمصر تمتلك مخزوناً هائلاً من الخبرات التاريخية التراكمية التي توفر لها مدركات ومعطيات استراتيجية جيدة تحول بينها وبين الانزلاق إلى قرارات عشوائية أو انفعالية، وتعرف الفارق بين قراري الحرب والسلام بشكل جيد، وبالتالي فهي لا تتلمس طريقها في هذه الأزمة كما يعتقد البعض، بل تنطلق في رؤيتها السياسية والاستراتيجية من إلمام ودراية كاملة بكل تفاصيلها وخباياها ومايدور وراء الكواليس فيها، وبالتالي فهي تتحرك بوعي وثقة تراعي مبادىء القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتأخذ بالاعتبار مختلف السيناريوهات والاحتمالات بكل مآلاتها ونتائجها، بناء على تقدير موقف للبيئة الاستراتيجية للصراع واتجاهاته.
ما يهمني في هذا الموضوع ليس خطوة مصر القادمة، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون، وكلنا يثق في رشادة وحكمة وقدرة القيادة المصرية على اتخاذ القرار الذي يناسب الشعب المصري ومصالحها ومقدراته، التي لا يمكن التفريط فيها بأي حال، ولكن يهمني بالأساس هو القواعد التي تنطلق منها نقاشات الكثير من الخبراء والمحللين، حيث أشير هنا بشكل خاص إلى أن توازنات القوى الاستراتيجية والعسكرية بين الجيش المصري ليس العامل الوحيد المرجح لقرار الحرب، فالمسألة والفوارق الكمية والنوعية هنا واضحة ومحسومة، ولكن امتلاك القوة ليس المحرك او الدافع الوحيد لاتخاذ قرار الحرب، فقوة مصر هي قوة رشيدة هي كما قال فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومصر ليست بالدولة التي يمكن استدراجها لخوض حرب في توقيت لا يناسبها أو لا يخدم مصالحها، فمصر بلد يضرب بجذوره العميقة في التاريخ، وليس من السهل توريطها في حرب لا ترى أنها ستحصل منها على مايفوق أي جهد لانهاء الأزمات بالتفاوض والسبل السلمية.
المؤكد أيضاً أن امتلاك القوة وضمان التفوق العسكري لا يعني بالتبعية توقيع قرار الحرب، فالحروب ليست نزهة كما يعلم القادة العسكريين والساسة المحترفين، والحاضر والماضي يخبرنا بذلك، ولو أن ضمانات القوة هي المحدد الرئيسي، لكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد قصف ملالي إيران حين اسقطواً الطائرة من دون طيار "تريتون إم كيو-4 سي" فوق مضيق هرمز في منتصف العام الماضي رغم أن الجيش الأمريكي، المتفوق تماماً في القدرات والتجهيزات العسكرية، قد اقر بأن الطائرة قد اسقطت "من دون مبرر" ما اعتبره الرئيس ترامب "خطأ كبير"، ولكان الرئيس بوتين قد أمر بالرد عسكرياً على تركيا حين أسقطت عمداً المقاتلة الروسية "سوخوي ـ24" على الحدود السورية، رغم أنه أقر بأنها "طعنة في الظهر" وأن الحادث سيخلف عواقب خطيرة على العلاقات الروسية ـ التركية"، وبما عرف عن الرئيس بوتين ذاته من حساسية تجاه كل ما يتعلق بهيبة الدولة الروسية وحرصه على استعادة نفوذها ومكانتها الدولية، ما يعني أن الحقوق لا تؤخذ بالقوة في أحيان كثيرة بل يتم انتزاعها سياسياً بالطرق التفاوضية لا تبتعد عنها كثيراً مؤشرات القوة وحساباتها التي يراعيها كل طرف ويأخذها جيداً في الاعتبار، بحكم أن الحرب هي في الأخير هي ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، كما قال كارل فون كلاوزفيتز في كتابه عن "الحرب"، ناهيك عن أن الحروب ذاتها بأجيالها الأربع لم تعد تقتصر على المواجهة العسكرية فقط، وبالتالي يمكن فهم بعضاً من ظروف هذه الأزمة المعقدة حقاً.
فوق كل ماسبق، فإن مصر ليست دولة طائفية أو انفعالية او ديماجوجية ، بل هي قوة اقليمية كبرى مسؤولة على حفظ الأمن والاستقرار، ودولة مؤسسة للأمم المتحدة، وهذا يملي عليها الكثير من المسؤوليات والالتزامات الدولية، وهذا مايفسر حرصها على بناء قضيتها والمضي في دروب الشرعية الدولية حتى منتهاها، فكان لجوئها إلى مجلس الأمن الدولي في هذا الإطار خطوة ذكية توفر غطاء من الشرعية لقراراتها وسياساتها في إدارة هذه الأزمة المعقدة.
"مصر هبة النيل" كما قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت قبل نحو قرنين ونصف من الزمن، ووجودها مرتبط بهذا النهر العظيم، الذي يشكل أكثر من 95% من موارد المياه العذبة للشعب المصري، وبالتالي فإن هذه الأزمة تولد ضغوطاً استراتيجية كبيرة على القيادة المصرية، وهي ضغوط نأمل أن تكون الأطراف الدولية كافة على وعي بها من أجل العمل وتكثيف الجهود لايجاد مخرج عادل يراعي مصالح جميع أطراف هذه الأزمة ويحقق مصالحها، كما نأمل أن يتفهم الجانب الاثيوبي هذه الظروف، ويقدر حرص مصر على إعلاء والتمسك بخيار الحوار والتفاوض سواء بشكل مباشر أو من خلال الوساطات الدولية، وتفادي شبح التصعيد قدر الامكان.
الخلاصة أن الشواهد جميعها تشير إلى ضرورة تغليب لغة العقل والحكمة والابتعاد على توظيف الأزمة في صراعات سياسية داخلية لأن الأمر متعلق بمستقبل شعوب ثلاث بما لا يحتمل معه أي خطأ في التقديرات أو سوء حسابات.