قلنا مراراً وتكراراً أن تجاهل المجتمع الدولي لتفشي ظاهرة الميلشيات الارهابية المتطرفة في مناطق شتى، وتمركزها بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط يمثل قبولاً ضمنياً باستمرار أحد أهم الأسباب والعوامل التي تغذي التوتر والفوضى والاضطرابات وتتسبب في تقويض الأمن والسلم وغياب الاستقرار في هذه المنطقة من العالم.
والمؤكد أن وجود الميلشيات والتنظيمات، بغض النظر عن مرجعياتها وأهدافها وجذورها الأيديولوجية والدينية والفكرية والسياسية إن وجدت، يعمل في اتجاه مضاد تماماً لفكرة الدولة الوطنية، التي تمثل أحد ركائز الأمن والسلم الدوليين في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، وقيام الأمم المتحدة وإعادة التأكيد على أهمية دور الدولة الوطنية التي نشأت تاريخياً عقب "صلح وستفاليا" الشهير عام 1648، وبالتالي فإن عودة هذه الظاهرة البغيضة كي تتوسع وتتمدد جغرافياً بشكل ممنهج وفقاً لأهداف ومصالح قوي اقليمية تمتكل اجندات توسعية طائفية وأخرى تسعيى لاستعادة أمجاد تاريخية غابرة، كان يمثل منذ بداية هذا الظهور مؤشر خطر لم يتحرك المجتمع الدولي ضده بالشكل الذي يتناسب مع خطورته وتأثيراته السلبية البالغة على الأمن والاستقرار الاقليميين.
صحيح أن تنظيمات الارهاب مثل "داعش" و"القاعدة" بفروعها ومن يواليها من جماعات ارهابية تمثل رأس حربة الخطر الذي كان ولا يزال يستحق المواجهة وتضافر الجهود الدولية ضده، ولكن هناك تنظيمات أخرى عابرة للسيادة الوطنية في دول عربية مختلفة، تستحق المستوى والقدر ذاته من المواجهة والمجابهة ليس فقط لأنها تسببت في انهيار الدول وتفشي الفوضى والاضطرابات وانعدام الأمن، ولم تكتف بتوفير بيئة آمنة للارهاب والفكر الارهابي كي يعيد الاصطفاف والانتشار ويتخذ من تلك الدول والمناطق نقاط تمركز جديدة، ولكن بعضها باتت تربطه علاقات تحالف مشبوهة مع جماعات الارهاب بحكم تلاقي المصالح والأجندات مثلما يحدث حالياً في ليبيا، حيث تتقاطر السفن التركية حاملة عناصر ارهابية تشارك في دعم حكومة السراج في طرابلس!
ومن أخطر الجماعات الطائفية التي تمثل احد أذرع المشروع التوسعي الايراني، جماعة الحوثي في اليمن، والتي لا تزال ترتهن مستقبل هذا البلد العربي لأهدافها ومصالح من تعمل لمصلحته بموجب وكالة سياسية واضحة المؤشرات والدلائل، حيث لا تكف هذه الجماعة عن تهديد الأمن والاستقرار في المملكة العربية السعودية الشقيقة بعد أن اتعمدت اغلاق كافة أبواب التسوية السياسية للأزمة اليمنية، والرهان على قدرتها على التعايش مع هذه الحالة غير المسبوقة من الفوضى زجت اليمن فيها.
وبالأمس القريب، سعى الحوثي مجدداً إلى تذكير العالم بقدرته على تقويض الاستقرار مستهدفاً عاصمة المملكة الشقيقة، الرياض، بما أسماه بـ "عملية واسعة في العمق السعودي"، بصواريخ باليستية وطائرات إيرانية مسيّرة تم اعتراضها بشكل فعّال من جانب الدفاعات الجوية السعودية قبل وصولها إلى أهدافها، في عمل ارهابي استهدف المدنيين والمناطق المدنية في العاصمة.
ورغم أن جائحة "كورونا" تشغل العالم بكل دوله، شرقاً وغرباً، عما عداها من أزمات وقضايا وتوترات، فإن من الضروري أن يستعيد المجتمع الدولي بوتيرة سريعة ذاكرة الأزمات، ويعمل على ايجاد حلول استئصالية تقضي على هذه التنظيمات او على الأقل تحرمها من مصادر تمويلها وتقطع الروابط التي تجعل منها أداة طيعة بيد مموليها، وتتصدى بشكل واضح وصارم للأنظمة التي تخوص حروباً بالوكالة في دول أخرى، وفي مقدمتها ملالي إيران، الذين يستخدمون ميلشيا الحوثي وغيرها كأدوات في صراعات النفوذ والهيمنة وإعادة هندسة المنطقة بما يتوافق مع مصالحهم الطائفية البغيضة على حساب سيادة ووحدة أراضي دول وشعوب عربية وقعت في براثن فخ الفوضى منذ عام 2011 وحتى الآن.
ندرك جميعاً أن مرحلة مابعد "كورونا" في العلاقات الدولية لن تكون كما قبلها، وأن النظام العالمي القائم بحاجة إلى سنوات كي يستعيد عافيته ويعاد تأطيره ورسم و"هندسة" قواعده ومعاييره الجديدة وفق مخرجات هذه الأزمة المعقدة، التي لم تكشف عن الكثير من تأثيراتها وتداعياتها بعد، ولكن يجب أن ينتبه الجميع إلى أن الصمت على هذه الميلشيات يمنحها الوقت الكافي لتحقيق أهدافها الكارثية، ويسهم في تقويض الأمن والسلم الاقليمي والعالمي، ويغذي أجواء الصراع والفتن الطائفية، ويشجع سيناريوهات الفوضى غير الخلاقة التي أفرزت لمنطقتنا كل هذا الكم من العبثية والأزمات التي أصبح بعضها خارج حدود السيطرة! كما لا يمكن فهم الصمت الدولي حيال ممارسات الحوثي وتهديداته المتكررة لأمن واستقرار دولة ذات ثقل استراتيجي اقليمي كبير، كالمملكة العربية السعودية الشقيقة، بمعزل عن عجز العالم عن التصدي لطموحات ملالي إيران ومشروعهم الطائفي فضلاً عن برنامجهم النووي والصاروخي، وهو عجز ناجم بالأساس عن تباين المصالح والخلافات بين القوى الكبرى، ولكن الجميع سيدفع ثمن هذا العجز والصمت واللامبالاة.