يشير تحليل مختلف الشواهد والمواقف وردود الأفعال الصادرة عن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ تولي السلطة في العشرين من يناير الماضي إلى أن نظام الملالي الايراني قد وضع هذه الإدارة في موقف دفاعي، واضطرها إلى البقاء في مربع رد الفعل لمواقف وسياسات هذا النظام.
الواضح أن السبب الرئيسي في ضعف موقف إدارة الرئيس بايدن في أزمة الاتفاق النووي الإيراني تحديدًا يتمثل في ضعف الخيارات المتاحة بفعل التمسك بالدبلوماسية كنهج وحيد للتعامل مع إيران، أو غياب البدائل الاستراتيجية الفاعلة في التعامل مع نظام يفترض أن معظم أركان هذه الإدارة يدركون طبيعته جيدًا، فالرئيس بايدن يؤمن تمامًا بأن التفاوض هو السبيل الوحيد للسيطرة على طموحات النظام الإيراني، ولكن التجارب اثبتت أن هذا النظام المراوغ لا يمكن أن يجلس للتفاوض ويقبل بتقديم تنازلات مقابل الحصول على مكاسب، سوى حين يستشعر خطرًا على بقائه في السلطة، أي أن يشعر أن مصيره في الحكم بات مرهونًا بالمرونة في أزمات ومواقف معينة، ناهيك عن أن أسس التفاوض تشكك في فاعلية أي تفاوض يرتكز على العصا دون الجزرة أو العكس، وأن من المهم المزاوجة بين الاثنين في إطار توازن صعب يتطلق من معطيات بيئة التفاوض ودراسة حالة الطرف الآخر جيدًا.
الحقيقة أن هناك فرصة جيدة أمام إدارة الرئيس بايدن للاستفادة من مخرجات وعوائد استراتيجية الرئيس السابق ترامب تجاه النظام الإيراني، فالواقع يقول أن الملالي هم من يعانون ويعيشون مأزقًا حقيقيًا وليس الولايات المتحدة، وبالتالي عليهم أن يبادروًا لتقديم التنازلات لا أن يظهروا التشدد والمبالغة في المطالب كما هو حاصل الآن! فمن اللافت أن إيران تتجاهل لأكثر من اسبوع عرضًا أمريكيًا بالجلوس على مائدة التفاوض إلى جانب الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي المبرم عام 2015، للبحث عن صيغة مناسبة للعودة إلى الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب منتصف عام 2018.
ما يثير القلق حقيقة أن تنجح استراتيجية الملالي في إبقاء الأطراف الدولية الموقعة على الاتفاق تحت الضغط الدائم، وأن تصبح المفاوضات المزمعة مجرد محاولة لوقف التقدم الإيراني نحو الحصول على قدرات تسليحية نووية، بتقليص برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم والعودة إلى سقف التخصيب الوارد في الاتفاق (67ر3%) بدلًا من النسب التي تؤكدها تقارير وكالة الطاقة الذرية حاليًا وهي 20%، والسقف الذي يلوح المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي بامكانية الوصول إليه بسهولة وهو 60%.
الإدارة الأمريكية تقول إن مايحدث حاليًا مع نظام الملالي هو فترة مراكمة نفوذ وتعزيز الأوراق التفاوضية، وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكننا نلحظ أن واشنطن لا تشارك في مراكمة النفوذ وحشد أوراق الضغط وتكتفي بالأثر المترتب على العقوبات التي فرضها الرئيس السابق ترامب دون المضي في تشديد هذه العقوبات أو حتى التلويح بهذا الخيار ووضعه على طاولة التفاوض لردع الملالي عن المضي قدمًا في لعبة "عض الأصبع".
والحقيقة أن إدارة الرئيس بايدن في موقف صعب للغاية في أزمة الاتفاق النووي الايراني، فالملالي يدركون حجم الصعوبات والضغوط الداخلية والخارجية، التي تحيط بهذه الإدارة، ويدركون كذلك أن هذه الادارة بحاجة ماسة إلى تحقيق انجاز سياسي في أحد ملفات السياسة الخارجية المهمة بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأمريكية، لذا يذهبون باندفاع شديد إلى مزيد من التشدد، سعيًا لانتزاع تنازلات أمريكية والحاق هزيمة سياسية مذلة بالولايات المتحدة في حال قبلت بالعودة للاتفاق النووي الايراني وقامت برفع العقوبات المفروضة على إيران أولًا، ما سيضع الرئيس بايدن مبكرًا في موقف صدام مع حلفاء بلاده في الشرق الأوسط وفي مقدمتهم اسرائيل ودول خليجية عدة، ولن يحصل في المقابل على عائد استراتيجي يذكر من ملالي إيران الذين يراهنون على ابقاء الإدارة الأمريكية في مربع الكر والفر طيلة السنوات الأربع إلا إذا حصلوا على ما يريدون.
الخطورة فيما يحدث أن الملالي قد ذهبوا إلى حد بعيد غير مسبوق في تاريخ علاقتهم بوكالة الطاقة الذرية، التي طالما حرصوا على إبقاء العلاقة معها في إطار مؤسسي منتظم في محاولة لتبديد أي شكوك لدى المجتمع الدولي حول برنامجهم النووي، ولكنهم هذه المرة يغامرون بهذه العلاقة حيث قاموا بتعليق العمل بالبروتوكول الإضافي الذي يعطي مفتشي الوكالة الدولية حق التفتيش المفاجئ علي منشآتهم النووية، وهناك ايضًا تهديد الملالي بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، في خطوة تمثل تحديًا للمجتمع الدولي، والحقيقة أن استمرار الملالي في هذا السيناريو التصعيدي من دون وقفة صارمة وجادة يعكس وحدة الصف والتصميم في مواجهة انتهاك القوانين الدولية سيكون سابقة خطيرة لها آثار مدمرة ليس على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط فقط، بل على السلم والأمن العالميين أيضًا.