لا أحد يجادل بأن أمن العراق واستقراره بات رهينة لمخططات الجار الايراني منذ سنوات مضت، ولا جديد يذكر على هذا الصعيد، ولا أحد كذلك يأخذ على محمل الجد أي انكار إيراني لعلاقة نظام الملالي بما يتعرض له العراق من هجمات واعتداءات ميليشياوية، مختلفة الأسباب والأهداف، فالأسلحة المتراكمة على أراضي هذا البلد العربي العريق ليست مجهولة المصدر، بل مصدرها وتمويلها معروف للكثيرين على الساحة السياسية والأمنية والعسكرية العراقية والاقليمية والدولية، وهناك ردود وأجوبة جاهزة ومؤكدة على تساؤلات مشروعة مثل: من أين أتت هذه الأسلحة ومن يستخدمها وماذا يريد!
البعض يجادل بأن النفوذ الأجنبي في العراق ليس حصراً على ميلشيات تابعة أو موالية للحرس الثوري الايراني، وأن هناك أطرافاً اقليمية ودولية عديدة لديها وجود بأشكال وأدوار مختلفة على الأراضي العراقية، وأن أصابع الاتهام يمكن توجيهها في أي عملية عسكرية ضد هذا الطرف أو ذاك بحيث يبقى الاتهام تائهاً في ظل غياب الأدلة والبراهين الموثقة، وهذا الجدال يبدو مثل "قنبلة دخان" تستهدف التغطية على الحقيقة التي لا مراء فيها، وهي أن من يمتلك القدرة على تنفيذ مخططات مثل إطلاق صواريخ أو تفجير قنابل أو غير ذلك، هو الطرف الميلشياوي الموالي للحرس الثوري الايراني دون غيره.
الحقيقة أن الهجوم الصاروخي الأخير الذي استهدف موقعاً بالقرب من مطار أربيل، حيث القاعدة العسكرية الأمريكية، وأسفر عن أصابة جندي أمريكي، يمثل اختباراً نوعياً مبكراً لإدارة الرئيس جو بايدن، ونواياها تجاه الأوضاع في العراق ومآلاتها، ويبدو أن من يقف وراء هذا الهجوم "يستعجل" موقفاً أمريكياً يوضح سياسات هذه الإدارة تجاه العراق، وربما يريد كذلك التذكير بنفوذه في العراق وحلحلة هذا الملف ووضعه على طاولة أي تفاوض محتمل مع الولايات المتحدة بشأن العراق أو غيره، ما يجعل الهجوم بمثابة اثبات حالة لتعزيز الأوراق التفاوضية لطرف اقليمي!
والحقيقة كذلك أن تذرع ملالي إيران بعدم وجود دليل يثبت ارتباطهم بهذا الهجوم أمر مثير للسخرية، وادعاء قديم جديد لأن كل الهجمات والاعتداءات، التي يوقن الجميع في منطقتنا بأن الملالي متورطون فيها لا تحتاج لأدلة من النوع الذي يريده الملالي، فالنفوذ الايراني في العراق واضح ومؤكد للجميع وليس بحاجة إلى براهين ودلائل، ثم أي دلائل بعد تفاخر الملالي أنفسهم باحتلال عاصمة العراق العريق وثلاث عواصم عربية أخرى؟! لا تحتاج مسؤولية الملالي في زعزعة استقرار العراق إذاً إلى دلائل ورقية تثبت الارتباط بين الحرس الثوري ـ مثلاً ـ والطرف الذي يدعي مسؤوليته على الهجوم، لاسيما ونحن بصدد التعامل مع كيان ميلشياوي وهمي وليس مؤسسي، وبالتالي فكل شخوصه وهمية وأسماء حركية وشخصيات خلف الستار، أو لأن تعليمات وأوامر هذه الجرائم تصدر شفهياً من طرف خفي وهرمية تنظيمية لا أحد فيها يعلم من يليه أو من يسبقه في هذه الهرمية السرية!
في هجوم مطار أربيل ـ على سبيل المثال عثرت قوات مكافحة الإرهاب في إقليم كردستان العراق علـى السيارة التي أُطلقت منها الصواريخ علـى المطار، فيما أعلنت مجموعة تسمي نفسها "سرايا أولياء الدم"مسؤوليتها عن الهجوم، الذي أطلق فيه 14 صاروخاً، تعكس وجود ترسانة تابعة لطرف يمتلك وجوداً عملياتياً قوياً ومؤثراً على الأراضي العراقية، ناهيك عن أن المطار ذاته يستهدف للمرة الثالثة، حيث سبق أن قصفته إيران رداً على مقتل الجنرال قاسم سليماني، في يناير من العام الماضي. كما قُصف بصواريخ "كاتيوشا" في سبتمبر الماضي، ما يعني أن الإحداثيات جاهزة والصواريخ كذلك بانتظار أمر الاطلاق وتوقيته فقط!
الهجوم الأخير الذي أثار "غضب" الولايات المتحدة كما قال وزير الخارجية انتوني بلينكن، جاء قبل أسبوعين تقريباً من زيارة يتوقع أن يقوم بها البابا فرنسيس إلى العراق، ويتوقع أن تشمل أربيل عاصمة اقليم كردستان، ما يعني أن أحد أهداف هذا الهجوم تكمن في محاولة الطرف الذي يقف ورائه، الغاء أو تعطيل هذه الزيارة المهمة، وهذا الأمر يؤكد حاجة العراق الملحّة إلى مواصلة جهوده في مكافحة الارهاب، وحاجته الملحّة أيضاً إلى دعم ومساندة القوى الدولية من أجل استئصال قوى الإرهاب وتحقيق النصر في معركة الدولة والسيادة ضد الإرهاب والخارجين عن القانون كما وصفها الرئيس العراقي برهم صالح.
أمن العراق واستقراره لا يجب ان يبقى رهينة بيد الملالي وغيرهم من القوى الاقليمية التي تحاول جعل هذا البلد العربي العريق ساحة خلفية للصراعات وتصفية الحسابات وتوسيع النفوذ الاستراتيجي، والعراق الذي يسعى جاهداً للافلات من هذه المخططات يستحق من العرب والمجتمع الدولي وقفة ومساندة جادة وحقيقية لانهاء هذه التدخلات.