عندما نويت التعبير عن سعادتي بوصول "مسبار الأمل" إلى مداره في كوكب المريخ، وجدت أن دوري ـ كباحث ـ في هذه المناسبة الاماراتية والعربية الخالصة هو مناقشة تخرصات بعض الأصوات المغرضة التي تسعى للنيل من خطوة رائدة عربياً واقليمياً، واعتبرتها قيادتنا الرشيدة منذ البداية "انجازاً عربياً" خالصاً، ولكن الحاقدين لا يتوقفون ولن يتوقفوا!
لست هنا بصدد الرد على الأصوات الحاقدة، ولكنني ارتأيت مناقشة توضيح بعض النقاط التي يطرحها البعض من هؤلاء كمدخل للتقليل من القيمة التاريخية والعلمية الهائلة لهذا الانجاز الاماراتي؛ وفي القلب من ذلك، نود التأكيد على ثوابت مهمة أولها اهتمام الامارات بأن تلعب دوراً اقليمياً وعالمياً ملهماً، وأن تبذل كل الجهود من أجل الاسهام في تغيير واقع هذه المنطقة التي لا يصدر منها للعالم سوى أخبار العنف والصراعات الدموية والارهاب والطائفية وغير ذلك من أمور كارثية يُلصق أغلبها في الذهنية العالمية بالاسلام والمسلمين، ومن هنا تلعب الامارات دورا في غاية الأهمية لطرح معادل موضوعي لهذه الصورة الذهنية وتقدم للعالم نموذجاً مغايراً او مقابلاً لما هو سائد، سواء من خلال نموذجي تنموي يحظي بإعجاب وتقدير الخبراء والمتخصصين والقادة والساسة عالمياً، أو من خلال تحقيق انجازات علمية نوعية تثبت أن الشباب العربي قادر على منافسة نظرائهم في بقية دول العالم المتقدم متى اتيحت لهم الفرص والامكانيات والظروف الملائمة، وأن العرب لم ينجبوا فقط شخصيات الارهاب المعروفة للجميع بل انجبوا هزاع المنصوري وعلماء ومهندسون إماراتيون شاركوا بكفاءة بالغة ـ بشهادة جميع الخبراء الأجانب الذين أسهموا في بعض جوانب هذا المشروع الضخم والمعقد علمياً ـ لينضم هؤلاء إلى أسماء عربية أخرى طالما لمعت ـ ولا تزال ـ في سماء العلوم والتكنولوجيا، وتجب الاشارة هنا إلى أن إعداد رحلة هذا المسبار قد بدأت منذ أكثر من 6 سنوات وتكلفت نحو 220 مليون دولار وشارك فيها فريق عمل كبيرة يضم نحو 250 مهندساً وباحثاً إماراتياً شاباً.
ثاني هذه الأمور يتمثل في مسألة الربط بين "مسبار الأمل" والعرب والحرص على التأكيد أنه إنجاز عربي، ليست مجرد تصريحات بروتوكولية، ولا اجتهاداً مني ـ كباحث ـ بل هو تعبير عن توجه استراتيجي إماراتي يجسد بوضوح تحمل الامارات لمسؤولياتها تجاه أشقائها من الشعوب العربية كافة، وقد بدأ بدعوة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي ـ رعاه الله ـ التي اعتقد أن هناك من لم يسمع بها في مشرقنا ومغربنا العربي، والتي أطلقها سموه خلال فعاليات القمة العالمية للحكومات بدبي في منتصف فبراير عام 2017، والتي قال فيها إن "المنطقة العربية مهد الحضارة البشرية ولا بد من أن يكون لدينا جميعاً أمل وتفاؤل وأنا متفائل ولدي أمل باستئناف الحضارة العربية". وأضاف سموه "نملك المقومات والموارد الطبيعية في العالم العربي والإرادة موجودة لكن الأهم وجود الإدارة على مستوى الحكومات والاقتصاد والبشر". وأن "الإنسان هو الذي يصنع الحضارة والإنسان العربي يملك المقومات الحضارية والعودة من جديد واستئناف الحضارة"، مشددً سموه على أنه "لا يجب أن نفقد الأمل بتحقيق التقدم والتطور العربي بالرغم من المشاكل والتحديات المحيطة". وليس سراً كذلك أن سموه قد أكد بعد هذه المناسبة أن اختيار اسم "مسبار الأمل" قد تم من بين آلاف المقترحات لأنه يبعث برسالة تفاؤل إلى ملايين الشباب العربي". ولا يفوتني هنا الإشارة إلى "تغريدة" ذات صلة قوية للغاية بهذا النقاش وذلك عند انطلاق المسبار في رحلته منذ ستة أشهر، قال فيها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "مسبار الأمل هو نقطة تحول للعالمين العربي والإسلامي في مجال الفضاء ... الوصول للمريخ لم يكن هدفاً علمياً فقط، بل هدفه أن نرسل رسالة للجيل الجديد في عالمنا العربي بأننا قادرون، وبأنه لا شىء مستحيل، وبأن قوة الأمل تختصر المسافة بين الأرض والسماء". إذن اعتبار "مسبار الأمل" إنجازاً عربياً وإسلامياً مقصود ومؤكد وواضح وله هدف حضاري وانساني وسياسي اجتماعي في نشر التفاؤل والسعادة والطاقة الايجابية وصناعة الأمل وانتشال ملايين الشباب العربي من براثن واقع تنموي بائس، أو الحيلولة دون سقوطهم في مربع اليأس والاحباط وبراثن الفكر الارهاب المتطرف.
الأمر الثالث أن "مسبار الأمل" سواء كان إماراتياً او غير ذلك (كي نخرج من مربع الجدل البيزنطي) هو إنجاز علمي بكل المقاييس، ولا مجال للتشكيك في ذلك مطلقاً، فهو يستهدف تزويد المجتمع العلمي العالمي بيانات جديدة وغير مسبوق حول الكوكب الأحمر، من خلال تقديم أول صورة كاملة لجو المريخ، وبمجرد التحقق من هذه البيانات، ستكون مفتوحة لمجتمع أبحاث الفضاء العالمي، وتعزيز الفهم السائد حول أسباب عدم صلاحية المريخ لحياة البشر، ولماذا لا يحمينا غلافه الجوي بالطريقة نفسها التي يوفر بها غلافنا الجوي على الأرض الحماية الفائقة، وهذه أمور علمية فائقة الأهمية يدرك قيمتها جيداً المتخصصون والخبراء في هذا المجال. فضلاً عن كون المسبار إماراتياً فهذا يوفر للدولة مكاسب إضافية مثل توسيع الاعتماد على قطاع العلوم والتكنولوجيا والتزود بقوة دفع هائلة للتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة، فالامارات هنا تمضي على درب علمي لم تسبقها فيه سوى خبرات دول قلائل هي الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند، وهذا بحد أحد أهم مكاسب هذا الانجاز العلمي، متمثلة في بناء الطاقات الوطنية الشابة القادرة على تحمل المسؤولية والقفز على الصعاب وتحويل الأحلام والطموحات إلى حقائق.
الخلاصة أن "مسبار الأمل" هو إنجاز عربي نابع من قلب الامارات وانتمائها الشديد والعميق لأمتها ورغبتها القوية في إحداث تغيير ايجابي، لأن الامارات تؤمن تماماً بأن هذه رسالتها ودورها من خلال نموذجها الملهم، كما تؤمن بأن التنمية والبناء والعمل والانتاج هي مقومات البيئة الأكثر قبولاً وجاذبية لشباب عربي ينظر للمستقبل بشغف ويأمل في اسهام جاد في بناء هذا المستقبل.