هناك شواهد ودلائل عدة تؤكد أن نظام الملالي الايراني قد وصل إلى مرحلة أصبح فيها معضلة استراتيجية حقيقية للقوى الاقليمية والدولية على حد سواء، وأحد أسباب تشكّل هذه الخلاصة أن هذا النظام بات يدور خارج فلك النظام والقانون الدولي، وأصبح نموذجاً يمضي بسرعة على درب الدول التي أصبح التنبؤ بسلوكها صعباً للغاية، ناهيك عن السيطرة عليها واحتواء خطرها والتهديدات الصادرة عنها. وما يضاعف خطر نظام الملالي أنه يمضي في سلوكه مستفيداً من ظاهرتين خطيرتين أولهما انقسام مواقف القوى الكبرى حيال ما يمثله هذا النظام من تهديد وإضرار بالأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وثانيهما عدم امتلاك القوة الأكثر تأثيراً في صناعة القرار الدولي (الولايات المتحدة ) بدائل وخيارات استراتيجية فاعلة وقادرة على ردع هذا النظام، والحيلولة دون أن يمضي في تحديه المتواصل لإرادة المجتمع الدولي.
في البداية، من المفيد التأكيد على أنه لا أحد يختلف مع نهج الرئيس الأمريكي جو بايدن في البحث عن مخرج للأزمة الايرانية من خلال أدوات دبلوماسية، فلا أحد ـ من داخل المنطقة تحديداً، يريد أن يرى النيران تشتعل في منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة للعالم أجمع، ولكن يجب أن نتذكر بالمقابل أن الدبلوماسية لم تفلح على مر التاريخ في اقناع الأنظمة الانتحارية ـ على شاكلة نظام الملالي ـ باحترام هذا النهج والقبول بمنطق "لا فائز ولا مهزوم" من خلال القبول بقواعد تفاوض عادلة.
لا أحد أيضاً يتشكك في فهم الرئيس بايدن وفريقه الرئاسي للفكر والذهنية الايرانية، بحكم التجارب السياسية السابقة، ولكن من المهم للغاية أن تستفيد الولايات المتحدة من فرصة التشاور مع أصدقائها في رحلة البحث عن طريق ثالث (بين خياري الحرب والتنازلات المجانية) للتعامل مع ملالي إيران، فاللافت أن الرئيس بادين لم يتحدث كثيراً ـ حتى الآن ـ مع معظم قادة ورؤساء الدول الحليفة للولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، حيث يفترض أن يتشارك الأفكار ومناقشة البدائل والاقتراحات كافة والتعرف إلى اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في أهم ملف يؤرق هؤلاء القادة والزعماء.
ولعل أكثر ما يقلقني ـ كمراقب وباحث ـ في ملف الأزمة الايرانية هو لغة "التودد"، اللافتة التي يبديها المسؤولون الأمريكيون حيال ملالي إيران، وهي لغة أقرب إلى ما يمكن تسميته بالتوسل ولا علاقة لها بالتودد المرتبط للوهلة الأولى بالاشارات الايجابية المتعارف عليها في العلاقات الدولية التقليدية، ويكفي أن أحد الصحف الصادرة باللغة العربية قد وصفت هذا النهج بـ "تدليل الملالي"، ولعل خير شاهد على ما أقصده هو تصريحات أدلى بها مؤخراً روبرت مالي المبعوث الأميركي إلى إيران ، وقال فيها إن بلاده تود إجراء حوار بالصيغة التي ترضي طهران، وفي لقاء له مع "بي بي سي فارسي"، أوضح المبعوث الأميركي أن بلاده تدرك أن عقوباتها على إيران تخلق وضعا صعبا، وأنها لا تشعر بالرضا عن فرض تلك العقوبات التي وصفها بالسياسة الفاشلة، وقال "ما نود فعله هو إجراء حوار مع إيران بأي صيغة ترضيها، فنحن لا نشعر بالرضا لفرض هذه العقوبات وندرك أنها تخلق وضعاً صعباً. ولكن ما نود القيام به هو إجراء حوار مع إيران بالصيغة التي ترضى بها الحكومة الإيرانية للتوصل إلى وضع نرفع فيه تلك العقوبات، امتثالا لالتزاماتنا بموجب الاتفاق النووي".
صحيح أن مثل هذه التصريحات قد تكون "موجهة" ومقصودة تماماً ولاسيما عبر القنوات التي ترسل من خلالها، ويراد منها إرضاء "غرور" الملالي ومنحهم انتصاراً إعلامياص ودعائياً وهمياً من خلال الاعتراف بفشل سياسة العقوبات الصارمة، حتى وإن كان هذا الاعتراف مخالف تماماً للواقع الذي يعكس حجم الخسائر التي تلحق بإيران جراء العقوبات، ولكن مثل هذه التكتيكات السياسية الأمريكية لا تلقى آذاناً صاغية لدى الملالي، الذين يرون فيها ضعفاً وخنوعاً من جانب الإدارة الديمقراطية، ما يدفعهم بالتبعية إلى مزيد من التشدد والتنطع في طرح المطالب، وهو مايفسر رفضهم كل اقتراحات الجلوس على مائدة التفاوض التي عرضها الوسطاء الأوربيين بموافقة أمريكية. واللافت أن لهجة المسؤول الأمريكي، الذي يفترض أنه أكثر أعضاء فريق الرئيس بايدن وعياً بفكر القادة الايرانيين، كانت أخف حدة ووطأة من تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي طالب الملالي بالتصرف بمسؤولية وعدم زيادة الوضع سوءا في ما يتعلق بالاتفاق النووي!.
المعضلة في استراتيجية إدارة الرئيس بايدن تجاه إيران أنها ـ حتى الآن ـ تكاد تطابق نهج الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي "تودد" للملالي كسبيل للتوصل إلى الاتفاق النووي من دون أن يأخذ بالاعتبار مقتضيات أمن واستقرار حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليح العربي، وهذا مايجب التحذير من أن تنجرف إليه الأمور مجدداً في رحلة البحث الأمريكية الجديدة عن سبيل للجلوس مع الملالي على مائدة التفاوض، فالشرق الأوسط لم يعد ـ جيوسياساً ـ كما كان عام 2015، ونتائج التجربة الأليمة التي قاد إليها الاتفاق النووي الموقع آنذاك ماثلة للجميع، إذ لا يخفي على أحد حجم العبث والفوضى التي تسبب فيها التوسع العسكري الايراني اعتماداً على هذا الاتفاق، ولا يخفي أيضاً على أحد أن هشاشة الأوضاع في هذه المنطقة من العالم تجعل منها منطقة قابلة للانفجار بحيث لم تعد تحتمل أخطاء استراتيجية جديدة في التعامل مع مصادر الخطر والتهديد.