هيهات من الذلة"، تلك العبارة التي يرددها النظام الإيراني منذ عقود، وتستخدمها قياداته في خطاباتها الرنانة للاستهلاك المحلي فقط، تثبت فشلها باستمرار على أرض الواقع، وتكشف زيف الشعارات التي تتغنى بها طهران. فبين مطرقة الضغوط الأمريكية وسندان التهديدات الإسرائيلية، تجد إيران نفسها اليوم في موقف لا تحسد عليه، تتسول صفقة مع واشنطن، وتستجدي وساطة موسكو، وتتودد إلى الرياض.
تُظهر متابعة تطورات الساحة الدولية أن المحادثات النووية بين إيران والولايات المتحدة قد دخلت مرحلة جديدة مع اختتام الجولة الثانية من المفاوضات في العاصمة الإيطالية روما في 19 أبريل 2025. وقد وصف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي هذه المحادثات بأنها شهدت "تقدماً ملموساً"، مضيفاً أن الطرفين "توصلا إلى فهم أفضل واتفاق على بعض المبادئ والأهداف". ويبدو لي أن هذا التصريح يعكس حالة من التفاؤل الحذر لدى الجانب الإيراني، الذي يسعى جاهداً للخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئه المعلنة.
ومما لا يخفى على المتابعين أن هذه المحادثات تأتي في ظل ظروف بالغة التعقيد، حيث تواصل إدارة ترامب سياسة "الضغط الأقصى" التي انتهجها خلال ولايته الأولى، بينما تواجه إيران تهديدات إسرائيلية متصاعدة باستهداف منشآتها النووية. وقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً أن إسرائيل وضعت خططاً لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في مايو المقبل، وهي الخطط التي رفض الرئيس ترامب دعمها، مفضلاً مسار المفاوضات، في موقف يعكس تبايناً واضحاً في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب.
مما لا جدال فيه أن المشكلة الأساسية في هذه المفاوضات تكمن في التباين الجوهري بين مطالب واشنطن وخطوط طهران الحمراء، فالولايات المتحدة تريد من إيران وقف إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب، الذي تعتقد أنه يهدف إلى بناء قنبلة ذرية، بينما تصر طهران على حقها في تخصيب اليورانيوم، مع استعدادها للتفاوض على بعض القيود مقابل رفع العقوبات الاقتصادية.
وفي هذا السياق، كشف علي شمخاني، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام ومستشار المرشد الأعلى الإيراني، عن تسعة مبادئ تشكل أساس التفاوض الإيراني، وهي: "الجدية، الضمانات، التوازن، عدم التهديد، السرعة، رفع العقوبات، رفض نموذج ليبيا/الإمارات، احتواء المخربين (مثل إسرائيل)، وتسهيل الاستثمار". وقد نشر شمخاني هذه المبادئ باللغة العبرية أيضاً، في رسالة واضحة موجهة إلى دولة إسرائيل.
وتتضافر الشواهد والمؤشرات على أن إيران تسعى جاهدة لتحسين موقفها التفاوضي من خلال تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية، فقد زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي موسكو قبل توجهه إلى روما، حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف، مؤكداً أنه يتوقع من روسيا مواصلة دورها "الداعم" في أي اتفاق جديد. كما شهدت الأيام الأخيرة زيارة وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، إلى طهران في واحدة من أرفع الزيارات السعودية منذ عقود، في خطوة تهدف إلى تحسين العلاقات الدبلوماسية بين الخصمين الإقليميين.
وفي الوقت الذي تجري فيه إيران محادثات مع واشنطن، تواصل دولة إسرائيل التعبير عن معارضتها الشديدة للمسار الدبلوماسي، فقد التقى المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف في باريس يوم الجمعة مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، المقرب من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومدير جهاز الموساد ديفيد بارنيا. وتفضل الحكومة الإسرائيلية العمل العسكري ضد إيران بدلاً من الدبلوماسية، حيث أكد مكتب نتنياهو أن "العمليات الإسرائيلية العلنية والسرية" هي السبب في أن "إيران لا تمتلك حالياً ترسانة نووية".
وفي خضم هذه التناقضات، يواجه النظام الإيراني معضلة حقيقية: إما الاستمرار في سياسة المواجهة مع الغرب، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية وأمنية خطيرة، أو تقديم تنازلات جوهرية بشأن برنامجه النووي وسياساته الإقليمية، مع ما يعنيه ذلك من تراجع عن الخطاب الثوري الذي يشكل أحد أهم ركائز شرعيته الداخلية.
وفي رؤيتي الخاصة، فإن المخرج الوحيد لإيران من أزمتها الحالية هو التخلي عن سياسة المواجهة والتصعيد، والانخراط بجدية في مفاوضات شاملة تتناول ليس فقط البرنامج النووي، بل أيضاً السياسات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية. فالاستمرار في سياسة المراوغة والتسويف لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والضغوط، وربما إلى مواجهة عسكرية لا تحمد عقباها.