منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرة الأولى عام 2017، اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقفاً متشدداً تجاه إيران، مختلفاً جذرياً عن سلفه باراك أوباما. لم يكن الأمر مجرد تغيير في السياسة، بل انقلاباً كاملاً في نهج التعامل مع الملف الإيراني. تقوم استراتيجية ترامب تجاه إيران على ثلاثة محاور رئيسية: الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية، وممارسة الضغط العسكري والتهديد باستخدام القوة، وعزل إيران دبلوماسياً.
وقد بدأت هذه الاستراتيجية بالتجلي في مايو 2018، حين أعلن ترامب - بلهجته الحادة المعهودة - انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، واصفاً إياه بأنه "كارثي" و"أسوأ صفقة تم التفاوض عليها على الإطلاق". فهل تنجح سياسة الكاوبوي الأمريكية وإنهاء الصفقات بسرعة التي يتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إجبار إيران - صاحبة دبلوماسية حائك السجاد والصبر الاستراتيجي - على التنازل عن برنامجها النووي؟
لقد أدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران إلى انهيار اقتصادها بشكل غير مسبوق. تخيلوا معي حجم الكارثة: انخفضت صادرات النفط الإيرانية من 2.5 مليون برميل يومياً قبل العقوبات إلى أقل من 500 ألف برميل يومياً، وفقدت العملة الإيرانية أكثر من 80% من قيمتها، وارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية تجاوزت 40%. وكأن هذا لم يكن كافياً، صعّد ترامب في عهدته الثانية من لهجته التهديدية تجاه إيران، ففي مارس 2025، هدد بقصف المنشآت النووية الإيرانية بعبارات لا تحتمل التأويل، قائلاً في تصريحات لشبكة NBC News: "إذا لم يتوصلوا [الإيرانيون] إلى اتفاق، فسيكون هناك قصف"، وأضاف بنبرة تحذيرية أن القصف سيكون "بشكل لم يشهدوه من قبل".
ومع تصاعد التهديدات الأمريكية في عام 2025، وتدهور الوضع الاقتصادي في إيران، بدأت طهران - التي طالما تغنت بصمودها وعنادها - تبدي استعداداً للتفاوض، وإن حاولت تغليف هذا الاستعداد بشروط شكلية للحفاظ على ماء الوجه. فقد أكدت إيران أنها ستعقد محادثات مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي، لكنها وصفت المحادثات بأنها "غير مباشرة" وليست مباشرة كما ادعى ترامب. والأكثر إثارة للدهشة، أنه في ظل هذه التهديدات، ازدادت الدعوات داخل إيران للتخلي عن سياستها المعلنة رسمياً بعدم السعي للحصول على أسلحة نووية. وفي تطور لافت، قال أحمد نادري، عضو هيئة رئاسة البرلمان الإيراني، في جلسة علنية للمجلس: "ربما حان الوقت لإعادة التفكير في عقيدتنا النووية والعسكرية والأمنية".
في المقابل، تكشف المتابعة الدقيقة لخطاب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عن استراتيجية دعائية متكاملة - وإن كانت مكشوفة - تهدف إلى تصوير إيران في موضع القوة والتقدم، رغم الواقع المختلف تماماً الذي تعيشه البلاد. فقد صرح خامنئي مؤخراً بلغة تعكس انفصالاً تاماً عن الواقع قائلاً: "إنّ أنواع التقدّم التي تحقّقت في البلاد أثارت غضب أعداء إيران وانزعاجهم"، مضيفاً أن "الهويّة الإسلاميّة المستقلّة للنظام الإسلامي هي العامل الذي يسبّب العداوات". وتابع بنبرة تبدو أقرب للهذيان: "إن جلّ هذه الضوضاء التي تُبَثُّ في وسائل إعلام الأعداء وتسمعونها ناتجة عن سخطهم وضيقهم. فإذ لا يجدون سبيلاً، يزعمون أمورًا لا تمتّ إلى الواقع بصلة، محاولين تصوير أمانيهم على أنها واقع، في حين أنّ حقيقة الأمر ليست كذلك".
ويبرز التحليل النقدي لهذه التصريحات تناقضاً صارخاً - بل مضحكاً - بين الخطاب الرسمي الإيراني والواقع على الأرض. فبينما يتحدث خامنئي عن "التقدم" الذي أثار غضب الأعداء، تشير الوقائع الملموسة إلى أن إيران ترضخ تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والتهديدات العسكرية الأمريكية، وتوافق مرغمة - وبذل واضح - على العودة إلى طاولة المفاوضات بعد أن كانت ترفضها تماماً. كما أن حديثه عن "الضوضاء" في وسائل إعلام الأعداء و"الأمور التي لا تمت إلى الواقع بصلة" هو في حقيقته محاولة استباقية - وإن كانت مكشوفة - لتفنيد الأخبار التي تتحدث عن تنازلات إيرانية محتملة في المفاوضات الجارية. إنه أسلوب دعائي بدائي يهدف إلى تشكيك الجمهور الداخلي في أي معلومات تتعارض مع الرواية الرسمية. فخامنئي يدرك - وهذا ما يؤرقه ليلاً - أن النظام قد يضطر إلى تقديم تنازلات كبيرة تحت ضغط تهديدات ترامب، لكنه يحاول تجهيز مريديه نفسياً لتقبل هذه التنازلات وتصويرها على أنها انتصار على "الشيطان الأكبر" واليهود.
بلا شك، وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن النظام الإيراني يواجه معضلة حقيقية لا مفر منها، فإما الإذعان للمطالب الأمريكية والتخلي عن طموحاته النووية - وهو ما قد يُنظر إليه داخلياً على أنه استسلام وضعف - أو المخاطرة بمواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة قد تؤدي إلى انهيار النظام بأكمله. وفي هذا السياق المأزوم، يبدو أن طهران تحاول - بيأس واضح - المناورة بين الخيارين، من خلال الدخول في ماراثون مشروط للتفاوض، مع الاحتفاظ بخيار التصعيد إذا لزم الأمر، وتوظيف آلة الدعاية الرسمية لتصوير أي تنازلات على أنها انتصارات. وهنا تظهر المفارقة المؤلمة بين دبلوماسية حائك السجاد التي تتبناها إيران تقليدياً، والتي تقوم على الصبر الاستراتيجي والنَفَس الطويل، وبين الضغوط الهائلة التي تفرضها سياسة الكاوبوي الأمريكية والتي تتطلب استجابات سريعة وحاسمة.
ويمكن القول - بثقة كبيرة - إن الصبر الاستراتيجي الإيراني يواجه اختباراً حقيقياً قاسياً في ظل تهديدات ترامب، إذ يتعين على طهران الموازنة بين الحفاظ على مبدأ الصبر الاستراتيجي الذي خدمها لعقود، وبين الاستجابة للضغوط الأمريكية المتصاعدة التي تتجاوز - بكثير - قدرتها على التحمل. وفي النهاية، يبدو أن إيران المتغطرسة التي طالما تبجحت بقوتها وصمودها، قد وجدت نفسها اليوم في موقف لا تحسد عليه، تتسول صفقة تحفظ ماء وجهها أمام شعبها، وتقيها شر الضربات الأمريكية المحتملة.