في التاسع من أبريل عام 2025، وهو اليوم الذي وصل فيه الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إلى أنقرة في زيارة رسمية استقبله خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، نشرت صحيفة "يني شفق" التركية، المعروفة بقربها من الحكومة، مقالاً لافتاً للكاتب طه كلينتش بعنوان "غزة والهجرة". المقال لم يكن مجرد رصد للواقع المرير في قطاع غزة، بل طرح فكرة "هجرة" سكان غزة إلى دول إسلامية أخرى كحل إنساني يوقف نزيف الدم.
هذا الطرح، الذي سرعان ما أثار جدلاً واسعاً، عكس نقاشاً دار بين شخصيات عديدة حول ضرورة التفكير بجدية في نقل أهل غزة إلى مناطق بديلة، حقناً لدمائهم.
وما زاد من دلالة الأحداث هو الإعلان الذي سبق وصول الرئيس الإندونيسي إلى تركيا بساعات قليلة. ففي بيان رسمي صدر في الأربعاء الموافق 9 أبريل 2025، أبدى الرئيس برابوو سوبيانتو استعداد بلاده لاستقبال الفلسطينيين "المتضررين" من الحرب في غزة بشكل مؤقت، مشيراً إلى إمكانية استضافة نحو ألف فلسطيني في المرحلة الأولى، وقد وجهت وزارة الخارجية الإندونيسية لإجراء مناقشات عاجلة مع الأطراف الفلسطينية والدولية بشأن آلية "إجلاء المتضررين" ونقلهم إلى إندونيسيا.
الغريب في الأمر أن هذا الإعلان جاء بعد شهرين فقط من موقف مغاير تماماً لوزارة الخارجية الإندونيسية، التي أعلنت في فبراير 2025 رفضها القاطع لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسراً، رداً على اقتراحات سابقة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا التحول الدراماتيكي في الموقف الإندونيسي، وتزامنه الدقيق مع الزيارة الرسمية للرئيس إلى تركيا، يثير تساؤلات مشروعة حول وجود تنسيق خفي بين أنقرة وجاكرتا، وربما برعاية أمريكية، لتنفيذ خطة "هجرة مؤقتة" لسكان غزة.
وفي 10 أبريل 2025، وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الإندونيسي في أنقرة، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن "أنقرة ستواصل العمل مع إندونيسيا لإعادة إعمار غزة والدفاع عن القضية الفلسطينية"، مضيفاً أن مواقف البلدين متطابقة إزاء قضايا المنطقة، وخصوصاً القضية الفلسطينية، ومشدداً على أهمية الدبلوماسية لإيجاد حلول جذرية للأزمات الحالية.
بلا شك عندما ننظر إلى الصورة الكبيرة، نرى مشروعاً تركياً قديماً جديداً بدأ يستثمر بشكل متزايد في الذاكرة التاريخية للشعوب العربية التي عاشت تحت الحكم العثماني. إنها استراتيجية متعددة الأوجه، حيث يتم تقديم نموذج سياسي بديل للأنظمة العربية الحالية، نموذج يجمع بين الهوية الإسلامية والحداثة. وهي تعمل في نفس الوقت بجد على تعزيز العلاقات الثقافية والتاريخية مع الشعوب العربية عبر المسلسلات التركية الشهيرة، والمنح الدراسية، والمؤسسات الثقافية مثل معهد يونس إمره، لتعزيز حضورها في "مستعمراتها العربية القديمة". أضف إلى ذلك، تقديم نفسها كحامية للمسلمين السنة في مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد، واستثمارها في المؤسسات الدينية والخيرية.
فيما يعتقديبدو أن هناك خطة كبرى تُحاك بدقة وعناية، مستندة إلى فهم عميق لعقلية ونفسية شعوب المنطقة التي حكمها العثمانيون لقرون طويلة، حيث ترسخ في وجدانهم نوع من الحنين أو القبول لدور تركي، ربما يفوق حتى تأثير الأنظمة الحاكمة الحالية.
أردوغان، بدوره، يبدو أنه يفهم جيداً الصفقة التي قد يقدمها له "الصديق" الرئيس ترامب، الذي لا يخفي رغبته في الاستثمار في غزة وتحويلها إلى "جنة الشرق الأوسط". الرئيس التركي، الذي يواجه أزمة اقتصادية طاحنة في بلاده، يدرك أنه ليس لديه رفاهية رفض عرض أمريكي مغرٍ، إنه بحاجة ماسة إلى الدعم الأمريكي لإنقاذ اقتصاده المتعثر وتعزيز موقفه في الداخل والخارج.
وهنا تكمن براعة أردوغان: قدرته على تبني خطابين مختلفين، فهو يقدم لجمهوره العربي في المستعمرات القديمة والذي يحن لأيام الخلافة العثمانية ما يودون سماعه من شعارات حماسية وخطب نارية ضد دولة إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يكلف وزير خارجيته بتلطيف الخطاب تجاه إسرائيل وتقديم لغة المصالح على الشعارات الرنانة. هذه الازدواجية ليست جديدة على السياسة التركية، فأردوغان يتقن فن الخطابة الشعبوية، ويدرك جيداً أن الخطاب المعادي لإسرائيل يجلب له شعبية كبيرة في الشارع التركي والعربي، لكنه في المقابل يدرك أيضاً أن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية مع دولة إسرائيل والولايات المتحدة لها الأولوية.
ختاماً، لا يمكن تجاهل القوة الناعمة التي تتمتع بها تركيا وتأثيرها المتزايد على شعوب المنطقة التي رزحت تحت حكمها لعقود طويلة. هذا الإرث التاريخي والثقافي يمنح أنقرة نفوذاً فريداً قد تستغله ببراعة لانتزاع الموافقات اللازمة لتحويل غزة إلى منطقة استثمارية مغرية ضمن مشروع ترامب.