يبدو أن غرور القوة الذي بات يسيطر على قادة النظام الإيراني يدفعهم إلى إرتكاب أخطاء إستراتيجية فادحة، والقيام بمغامرات غير محسوبة، في توقيت لا يمكن أن تغيب خطورته وحساسيته عن أي صانع قرار سياسي أو عسكري. وأحدث أمثلة هذه الممارسات الإيرانية حصرياً، شن هجوم سيبراني على ألبانيا، التي وصفت الهجوم بالكبير مؤكدة التوصل إلى "دليل دامغ" على أن إيران إستخدمت أربع مجموعات لتنفيذ الهجوم ضد ألبانيا منتصف يوليو الماضي، حيث إستهدف الهجوم "شلّ خدمات حكومية وحذف وسرقة بيانات رسمية والتحريض على الفوضى".
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أنكر الإتهامات بشأن الهجوم ووصفها بالفارغة، وحذر من أي مغامرة سياسية ضد بلاده، وشدّد على أن "أمريكا وبريطانيا اللتين إلتزمتا الصمت فيما مضى تجاه الهجمات السيبرانية المتعددة ضد البنى التحتية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكذلك ضد المنشآت النووية، حتى أنها أيدت هذه الهجمات نوعا ما بشكل مباشر او غير مباشر، لا مصداقية لهما في توجيه هكذا إتهامات ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
بعيداً عن حالة الإنكار الإيرانية سواء تجاه هذا الهجوم أو غيره من الممارسات، ولأننا ـ كمراقبين ـ إعتدنا على نفي طهران لكل أفعالها حتى تلك التي لا يثور أي شك حول صحة بصمات إيران عليها، فإن توقيت الإعلان عن نتائج التحقيقات يؤكد أن المحادثات الخاصة بإحياء الإتفاق النووي تمر بمأزق حقيقي، وربما وصلت إلى حائط مسدود، لأن رد الفعل الأمريكي حيال هذه النتائج ليس معتاداً من إدارة بايدن، التي تباطئت كثيراً من قبل في تبني موقف صارم حين تعرضت دول حليفة لواشنطن لاعتداءات أشد خطراً من جانب ميلشيات معروفة بولائها لإيران!
كان لافتاً أن يتحدث البيت الأبيض بشكل قوي للغاية عن كيفية الرد على الهجمات الالكترونية على ألبانيا، ويشير صراحة إلى مناقشة إحتمال تفعيل البند الخامس من معاهدة حلف شمال الأطلسي، ورغم أن هذه الإشارة أعقبها حديث عن "إجراءات متعددة" قبل اللجوء إلى هذا البند الذي يفرض على دول الحلف أن ترد على أي هجوم يستهدف إحداها، فإن مجرد الإشارة إلى هذا البند يعكس مستوى تعامل أمريكي مختلف عن حوادث سابقة متكررة ارتكبتها إيران، بما في ذلك هجمات سيبرانية إيرانية ضد أقرب حلفاء واشنطن مثل إسرائيل.
لا ننظر كمراقبين، بجدية إلى إمكانية تفعيل المادة الخامسة في الرد الأطلسي على الهجوم السيبراني الإيراني على ألبانيا، ليس فقط لأن الناتو لم يستشهد بالبند الخامس سوى مرة واحدة في تاريخه، وذلك حين قام بالرد على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001، ولكن أيضاً لأنه لا يمكن عملياً التصعيد ضد إيران في وقت يبذل فيه أعضاء الناتو الأوربيين أنفسهم أقصى الجهود الدبلوماسية لإقناعها بالعودة إلى الإتفاق النووي، ناهيك عن إستبعاد إمكانية تبني البيت الأبيض لأي قرار بالرد بأي طريقة من الطرق على الهجوم الإيراني في الوقت الراهن على أقل التقديرات.
المسألة هنا لا تتعلق إذا بتفعيل البند الأطلسي الخامس من عدمه، أو حتى طبيعة رد الفعل الأطلسي المحتمل، ولكنها تتعلق بتطور مستوى جرأة إيران وتمددها إلى مساحة جديدة تعرف مسبقاً إمكانية إستغلالها ضدها لأنها بالتأكيد تعلم أن ألبانيا عضو في حلف الأطلسي، وأن من الوارد كشف خلفيات الهجوم السيبراني، ولكن يبدو أيضاً أن طهران تجاوزت هذه الحسابات التقليدية وقررت شن الهجوم بغض النظر عن عواقبه، وهذه بحد ذاتها إشارة تعكس ما يمكن أن يحمله المستقبل على صعيد الممارسات الإيرانية ضد من تعتبرهم خصومها.
الواقع أن أحد أسباب رد الفعل الأمريكي القوي لا يقف عند حدود الإعتداء على سيادة دولة أطلسية حليفة كما يقول البيان الرسمي الأمريكي، ولكنه يبعث بالأساس برسالة تهديد أو بالأحرى تذكير إلى طهران بأن هناك ملفات عدة يمكن فتحها عند فشل مفاوضات الإتفاق النووي، والأمر لا يتعلق بالهجوم السيبراني ضد ألبانيا فقط، بل يتعلق بموضوع الهجوم نفسه، وهو جماعة "مجاهدي خلق"، التي إستهدف الهجوم الرد على أحد مؤتمراتها في مدينة مانيز الألبانية، والتي تستضيف معسكراً يؤوي نحو ثلاثة آلاف من أعضاء هذه الجماعة المعارضة التي تقيم في هذا المعسكر بطلب من واشنطن والأمم المتحدة.
ورغم النبرة الامريكية الصاخبة في التعليق على الهجوم السيبراني الإيراني ضد ألبانيا، فإن الواقع يقول أيضاً أن الأمور في هذا الهجوم لم تمر بهدوء كما أعتقد الإيرانيون، الذين يبدوا أنهم قرروا تنفيذ الهجوم إعتقاداً منهم بأن الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه هجمات سابقة، ويبدو أن المصادفة لعبت دورها وتعقدت مفاوضات الإتفاق النووي، ومن ثم جاء توقيت الإعلان عن نتائج التحقيقات بشكل يوحي بأن ثمة ضوء أخضر أمريكي يبعث برسالة ذات مغزى لإيران، التي نفذت إحدى مغامراتها غير المحسوبة، وستواصل الإنكار كما اعتادت، على أن يبقى الهجوم مجرد حلقة من حلقات الشد والجذب بين إيران والولايات المتحدة، حيث تتأرجح التوقعات ويصعب بناء تصور دقيق حول مآلات الأمور في هذا الملف المعقد.