لا تختلف لهجة الخطاب السياسي الإسرائيلي كثيراً، بين القادة والأحزاب، حينما يتعلق الأمر بالعمل على منع إيران من الحصول على قدرات نووية تهدد أمن إسرائيل، وهذا يعني ـ بنظر المحللين والمتخصصين ـ وجود إحتمالية ـ بنسبة ما ـ لتوجيه إسرائيل ضربة عسكرية إستباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية في حال إستشعرت الأولى تفاقم الخطر بحيث تصبح تكلفة الضربة إستراتيجيًا أقل من خطر الصمت حيال تهديد مؤكد.
واقعيًا فإن مناقشة هذه الإحتمالية، بغض النظر عن مستوى صدقيتها، يبدو مهماً لنا في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، لأن قيام مواجهة عسكرية من أي نوع، محدودة أو واسعة، بين إيران وإسرائيل ستكون له آثار سلبية على أمن منطقتنا واستقرارها، وهو أمر لا يتمناه أحد ولكن هذا لا ينفي حتمية أخذ مختلف السيناريوهات بالإعتبار، لاسيما أن سوء الإدراك المتبادل وخطأ الحسابات قد يتسبب في حدوث مثل هذا السيناريو.
المؤكد في الأمر كله أن هناك تشاركاً في الإحساس بالخطر النووي الإيراني لدى كل من دول مجلس التعاون وإسرائيل على حد سواء، ولكن هذا التشارك لا يعني بالتبعية أن تدعم هذه الدول أي مخطط لإسرائيل يستهدف توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، فهذه مسألة حساسة للغاية بالنسبة لأمن دول "التعاون"، ونعتقد أن الدوائر الإسرائيلية تتفهم جيداً هذه الحساسية وتأخذها بالإعتبار في إدارة علاقاتها المتنامية مع دول وشركاء إقليميين مهمين مثل الإمارات والبحرين وغيرهما.
بالتأكيد أن مناقشة التهديد الإسرائيلي المستمر بإجهاض البرنامج النووي الإيراني يجب أن يأخذ بالإعتبار عوامل عدة في مقدمتها المرحلة التي ارتقت إليها إيران معرفياً، أي من حيث إمتلاك تقنية إنتاج سلاح نووي، وقناعتي أن "القدرات المعرفية" هي المكون الأهم في مسألة البرنامج النووي الإيراني وليست "القدرات الإنتاجية أو التنفيذية"، وهذا ما يتلاعب به الإيرانيون لفظياً حين يؤكدون دوماً على "تحريم" إمتلاك سلاح نووي استناداً إلى فتوى دينية للمرشد الأعلى، فإنتاج سلاح نووي بالفعل قد يكون مؤجلاً، ولكن المعرفة لا تدخل في نطاق "التحريم" المقصود، وهذا يعني وجود إحتمالية كبيرة، تدعمها تقارير وتقديرات إستخباراتية غربية وإسرائيلية أيضاً، بأن إيران تمتلك بالفعل القدرة المعرفية على إنتاج "القنبلة"، والمقصود هو وجود التقنية والموارد اللازمة لذلك من اليورانيوم المخصب والمعدات اللازمة لذلك بانتظار قرار سياسي من أعلى سلطة إيرانية.
العامل الثاني هو البيئة الإستراتيجية الدولية، حيث أن أي قرار إسرائيلي أو حتى أمريكي بتوجيه ضربة عسكرية ضد منشآت نووية إيرانية أو غير إيرانية ليس أمراً عادياً، هو قرار بالغ الخطورة، وله عواقب وتبعات ممتدة، لاسيما إذا كانت الدولة المستهدفة قد وصلت إلى مراحل متقدمة نووياً، وتمتلك قدرة توجيه الضربة الثانية، كما هو الحال عند إيران، ولاسيما على صعيد الأذرع الميليشياوية الخطيرة التي تقض الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط باكملها، ناهيك عن إحتمالية إستخدام الصواريخ متعددة الأمدية القادرة على الوصول ليس لدول المنطقة فقط بل لعمق أوروبا نفسها. والواقع يقول أن البيئة الدولية الراهنة لا تدعم مطلقاً الإقدام على مثل هذا القرار في التوقيت الراهن، سواء في ظل إحتدام الصراع الأوكراني بكل ما ينطوي عليه من تأثيرات على دول العالم كافة، أو في ضوء تفاقم حدة الصراع الأمريكي مع كل من الصين وروسيا، وتدهور أوضاع الإقتصاد العالمي وصعوبة حصول إسرائيل على دعم دولي كاف للقيام بهذه الخطوة، ناهيك عن المخاطرة البالغة التي ينطوي عليها إتخاذ قرار كهذا من دون ضوء أخضر أمريكي على الأقل.
العامل الثالث يرتبط بالثاني وهو أن المستوى الإستراتيجي لمثل هذا القرار يضعه في إطار مغاير لأي قرار، بحيث يحتاج إلى دراسة متأنية على المستوى السياسي والأمني وليس فقط العسكري، لأن الحسابات العملياتية لتنفيذ أي خطة عسكرية قد تكون داعمة للقرار، حيث أن إسرائيل قد لا تفتقر إلى القدرات العملياتية التي تؤهلها لتنفيذ الضربة الاستباقية، ولكن المسألة في هذه الحالة تحديداً لا تتوقف على القدرات العملياتية، بل على نتائج دراسة الموقف سياسياً واستراتيجياً، لأن مخرجات العملية كلها لن تتوقف على نتائج القصف المحتمل بل على ردة الفعل الإيرانية والدولية المعاكسة، وكيف يمكن التعامل معها وإجراء عملية حساب دقيقة لكل هذه الأمور بما يضمن تحقق الهدف الإستراتيجي الاسرائيلي من دون تكلفة باهظة. قرار أي حرب في جميع الأحوال هو قرار سياسي، وفي جميع الأحوال أيضاً تلعب وتمثل القدرات العسكرية جزءاً كبيراً من صناعة هذا القرار، ولكن في بعض الحالات قد يكون القرار سياسياً بامتياز قبل وبعد وأثناء التفكير في حدود القوة والفاعلية العسكرية.
لدي إعتقاد راسخ أن هناك سوء فهم لا يقتصر على الجانب الإيراني، بل يشمل كثيراً من الخبراء والمحللين، الذين يعتقدون أن التهديدات الإسرائيلية ليست سوى حرباً نفسية أو كلامية، ولكن هذا الأمر غير حقيقي بالمرة لأن إحساس الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية بالتهديد الإيراني حقيقي تماماً، وهو أمر نعرفه جيداً في دول مجلس التعاون، ليس من واقع العلاقات مع إسرائيل، ولكن من واقع معايشتنا لهذا الإحساس منذ سنوات طويلة، بالدرجة التي تجعلنا نفهم جيداً الشعور بالخطر من وجود منشآت نووية مجاورة لا تمتلك معايير دقيقة للرقابة النووية والتحسب لحدوث تسرب إشعاعي، ناهيك عن الاستقواء بترسانة عسكرية تقليدية وغير تقليدية توجه إليها حرفياً كل موارد الدولة الإيرانية.
نعم، تشعر إسرائيل بالخوف من التهديد الإيراني، والإحساس بالقلق والخوف لا يعني بالضرورة أن تتخذ قراراً بالرد عسكرياً، فإسرائيل، على سبيل المثال، تشعر بالقلق المزمن من تنامي القدرات العسكرية لحزب الله اللبناني، وهذا أمر لا شك فيه، ولكنها لم تتخذ قراراً بخوض حرب شاملة للقضاء على هذه القدرات وتراهن على إدارة الخطر سياسياً وإستراتيجياً حتى اللحظة امتثالاً لمحددات عديدة معقدة تتحكم في قرار الحرب والسلام بالنسبة لإسرائيل أو لغيرها من الدول. ومعضلة إيران في هذه النقطة تحديداً، انها تضغط عليها باستمرار، وتبدو كمن يضغط عن قصد على جرح نازف لإيلام الخصم، وهي تدرك تماماً مدى التعقيد الذي يحيط بأي قرار يستهدف توجيه ضربة عسكرية ضد منشآتها النووية، وهذا بالطبع لا يعني أنها لا تتحوط لذلك بل تفعل تماماً.
تقييم المخاطر في الحالة الإيرانية هو ما يدفع إسرائيل ـ من وجهة نظري للتحسب او للتردد لا فرق كثيراً ـ قبل الإقدام على خطوة الضربة العسكرية، فالمنشآت النووية الإيرانية ليست كمفاعل "تموز" العراقي"، سواء لجهة الإنتشار الجغرافي أو من حيث مرحلة التطور التشغيلي والتقني، وهذه حسابات معقدة للغاية، وتبدأ وتنتهي عند نقطة تدركها إيران جيداً وتراهن عليها في كبح جماح أي مخطط عسكري ضدها، ولكن هذا الرهان المحفوف بالمخاطرة التي تبدو للكثيرين، وأنا منهم، غير محسوبة، تضع منطقتنا على حافة هاوية دائمة.