الشواهد جميعها على المستوى الاقليمي، تشير إلى تراجع بل انهيار الأحلام التوسعية الايرانية في دول ومناطق عدة من الاقليم، ففي سوريا كاد الجنرال قاسم سليماني أن يقود بنفسه الحرب الدائرة حول مدن مفصلية وحاسمة بالنسبة لسيطرة النظام السوري وبقائه في الحكم، وحاول رفع معنويات عناصره ولكنه فشل وتوالت الأنباء على عكس ما بشر به سليماني، الذي ظل يصور نفسه باعتباره رجلا خارقا للمألوف عسكريا، فيما أثبتت الأحداث أنه لايجيد سوى الاستعراض الكلامي والخطابي. وفي اليمن لم تحقق إيران أي انجازات تذكر بعد أن فقد أتباعها من جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبد الله صالح فرص السيطرة على الدولة اليمنية وتعرضوا لخسائر فادحة على المستويين البشري والمادي تحت وطأة الضربات المستمرة لتحالف دعم الشرعية الدستورية في اليمن.ولا ننسى ان حزب الله اللبناني قد وضع نفسه طرفا مباشرا في الصراع الدائر في سوريا، وتعرض هو الآخر لخسائر فادحة، ولم يعد يهدف سوى إلى حماية مصالحه وتفادي أي ضربات جديدة وسقطت الهالة الاعلامية والدعائية التي رسمها حول نفسه منذ ان صمد في مواجهة الضربات الجوية الاسرائيلية في لبنان، في حين أخفقت ميلشيات الحزب اخفاقا ذريعا في خوض حرب من الطراز ذاته، أي مواجهة عناصر قتالية مماثلة في حرب غير تقليدية.
على صعيد مفاوضات الملف النووي، تتفاقم الخلافات بين إيران ومجموعة "5+1"حيث تبدو الهوة واسعة بين الجانبين، خصوصا بعد رفض الرئيس الإيراني حسن روحاني الشروط الخاصةبتفتيش مواقع عسكريةكشرط لتوقيع اتفاق مع الغرب بشأن برنامج بلاده النووي؛معتبراً أن ذلك من شأنه تسريب أسرار إيران العسكرية إلى الخارج، وتحدث روحاني عن وجود خلافات أخرى قائمة حول تفاصيل الاتفاق النووي، وفاتحا الباب أمام احتمالية تمديد سقف توقيع الاتفاق المرتقب في الثلاثين من يونيو الجاري، إذ قال روحاني "لسناأسرى للوقت.. لسنافي عجلة، لكننا نحاول استغلال الفرصة للتوصل إلى اتفاق جيد".
المزاج العام في إيران يميل إلى تمديد المفاوضات ليس فقط لرفض شروط المجموعة الدولية، ولكن لأن الواقع الاقليمي انقلب ضد إيران ولم تعد تمتلك وضعا استراتيجيا قويا يتيح لها مقايضته بمكاسب تفاوضية، ويمكن ملاحظة هذا التوجه في تصريحات مسؤولين إيرانيين عديدين منهم عباس عراقجي،مساعد وزير الخارجية الإيراني، وعضو وفد المفاوضات النووية، الذي قال أن المفاوضات بشأن الملف النووي لبلاده يمكن أن تمتد إلى مابعد الموعد المحدد لانتهائها. فروحاني الذي يرفض السماح بتفتيش منشآت إيران العسكرية وسقوط "أسرار الدولة" بين يدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم يكن أقل تشددا من المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، الذي بدا أكثر تشدداً، حينماأشارإلى أن بلاده لن تقبل ماوصفه بالطلبات غير المعقولة من جانب القوى الدولية، رافضا وجود أي رقابة غير عادية على الأنشطة النووية.
هذا هو الواقع الاستراتيجي الذي يحاصر الدولة الايرانية ويضفي عليها قدرا ملموسا من الذعر والانفعالية والتسرع، ما يغذي التوقعات بأن إيران قد ترتكب حماقات استراتيجية تحت ضغط انهيار خططها وطموحاتها التوسعية الاقليمية، وأخطر مافي الأمر أن الشيعة الذين تعتمد عليهم طهران تقليديا باتوا غير قادرين على حسم الصراعات لمصلحة إيران، مادفع الأخيرة إلى توسيع دائرة التدويل في هذه الصراعات وجلب شيعة أفغان وباكستانيين للقتال في سوريا.
الثابت أن طهران قد استنزفت قدرا هائلا من دخلها ومواردها المالية في دعم وكلائها واتباعها والموالين لها في اليمن وسوريا والعراق وغيرها، ولم تعد قادرة على التراجع او التخلي عن طموحاتها، مايفتح الباب واسعا امام استمرار الصراعات ونزيف الدم في تلك الدول والمناطق.
الذعر الايراني من الاحساس بوطأة نزيف الخسائر الاستراتيجية قد يغذي ميل طهران إلى المغامرة بتوسيع دائرة الصراعات العسكرية القائمة، أو فتح بؤر صراع جديدة مع جيرانها، والأرجح أن يكون العراق هو الضحية الأكبر لإيران، ليس لشىء سوى لأن النفوذ الايراني في العراق هو الأكثر وجوداً وقابلية للتوسع والانتشار، وبالتالي يمكن لإيران أن تسعى إلى تعويض خسائرها الاستراتيجية في سوريا واليمن عبر تعزيز نفوذها في العراق، ولكن هذا لا يعني بالضرورة قبول طهران بانحسار نفوذها في اليمن وسوريا، بل إن طهران ستتمسك بقوة بدور المشاغب في هاتين الدولتين، بحيث تلعب دور المشاغب لإرباك حسابات القوى المنافسة ومحاولة حرمانها من ترتيب الأوضاع الداخلية في هذين البلدين.
الشواهد جميعها تؤكد أن إيران لن تستسلم بسهولة لفكرة تحجيم دورها ونفوذها الاقليمي لسبب بسيط أن النظام منذ الثورة عام 1979 وهو يقتات على فكرة التدخلات الخارجية وتصدير الأزمات والانخراط في حروب وصراعات وإشاعة أجواء من الخوف والقلق في المحيط الاقليمي، ومن ثم فإن تعايش إيران كبلد طبيعي فكرة لم تجرب بعد من ثلاثة عقود او أكثر، وبالتالي فهي بمثابة شبح بالنسبة للنظام الحالي في طهران، ويصعب عليه الاستسلام لها والقبول بها، وهو يدرك تماما أن أي هدوء داخلي وخارجي سيرافقه بالضرورة تبعات من بينها مواجهة استحقاقات داخلية مثل خطط التنمية وتوظيف موارد الدولة الايرانية لمصلحة الشعب، وتلك مسألة ليست ضمن الفكر السياسي الأيديولوجي لهذا النظام القائم على المذهبية ونشر الفكر الشيعي وتصدير الثورة وغير ذلك من مفاهيم لا تتعايش مع المناخ الطبيعي للدول.
تراجع النفوذ الايراني يعني أيضا انهيار الصورة النمطية التي يحرص النظام على ترويجها من عقود مضت، وبالتالي فقدان مؤيديه وأتباعه في دول عدة، وهي مسألة مرتبطة بالمكانة والنفوذ العقائدي والروحي للنظام الذي يروج لنفسه باعتباره حامي الشيعة في العالم، ويكتسب من وراء ذلك قدرا من المكانة في نفوس الملايين من الشيعة، ومن ثم فإن فشله في تحقيق خططه يعني بالتبعية سقوط هيبته وانهيار صورته النمطية، وهي في مجملها عوامل ومعطيات حيوية تغذي الفكرة المرجحة لتهور النظام الايراني جراء شعوره بالذعر والقلق المتزايد خلال الفترة المقبلة.