من خلال متابعتي لوجهات النظر ومقالات الرأي في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية، طالعت مقالاً لأحد الكتاب الايرانيين باللغة العربية، يرى فيه أن دول التحالف هي التي "رمت اليمن بحضن إيران ثم بدأت تندد بنفوذها"، وهذا الأمر قد يكون فيه جانب من الصحة لأن دول التحالف، وتحديدا دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ظلت لسنوات طويلة تتبنى سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى واحترام سيادتها، وهي ليست مبدأ خليجياً بل هي قاعدة تنطلق منها القوانين والتشريعات والأعراف الدولية، ومن ثم فإن عدم التدخل في شؤون اليمن او غيره من الدول العربية ليست امرا سلبياً يعيب سياسات دول مجلس التعاون حيال هذا البلد الشقيق، بل هو انعكاس لاحترام وتقدير غاب عن الجار الايراني الذي أسقط كل مبادىء العلاقات الدولية وتنصل منها، ويغمس أنفه في شؤون الكثير من الدول العربية المجاورة له وغير المجاورة!!
يقول الكاتب أن عمليتي "عاصفة الحزم" و "إعادة الأمل " قد تسببتا في تزايد شعبية جماعة "انصار الله" الحوثية ومضاعفتها عن ذي قبل، وأن العمليتان أسفرتا عن تنامي النفوذ الإيراني في اليمن عن ذي قبل، وأن علاقة طهران لم تتوطد مع حركة أنصار الله وحسب بل مع كل الذين رفضوا الهجوم على اليمن، ويزعم الكاتب أن هناك معلومات تؤكد لهأن قيادات في جمعية الاصلاح الحليف التقليدي للتحالف وللرئيس عبد ربه منصور هادي انضمت الى حركة أنصار الله، وهذه مسألة لا اجادل الكاتب فيها، فليس بغريب أو بالأمر المفاجئ أن ينضم الاخوان المسلمين أو جمعية الاصلاح إلى الحوثي أو غيره، فهذا ديدن الإخوان في محطات تاريخية عديدة، أقربهاما حدث أثناء غزو دولة الكويت الشقيقة وتأييدهم لصدام حسين، فمبادئ الجماعة تبدأ من الانتهازية السياسية وتصب فيها، والأمر ليس مفاجئا سوى لمن لا يريد رؤية نور الشمس في وضح النهار.
الغريب أن الكاتب الإيراني لا يأخذ على بلاده موقفها مما حدث أثناء انقلاب الحوثي على الشرعية الدستورية، بل يأخذ على دول التحالف عدم مسارعتها إلى مايسميه "رأب الصدع وجسر الهوة"، متجاهلاً أن أحد أبرز الانتقادات التي توجه الآن لدول مجلس التعاون هو التزامها الصمت والحذر والتردد فترة طويلة وتمسكها بسياسة هادئة حيال مايحدث في اليمن حتى سقطت صنعاء بيد جماعة الحوثي وانهارت الدولة بأكملها بعد أن أعجبت اللعبة الحوثي وحلفائه الايرانيين واغرتهم بالتمدد جغرافيا إلى عدن ومحاولة السيطرة على الدولة اليمنية بأكملها!! حتى ذلك الوقت لم تكن دول مجلس التعاون تفعل سوى مناشدة جماعة الحوثي بالتزام المسار السلمي ومقررات الشرعية الدولية، وقرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن واضحة وكاشفة عن ضبط النفس المفرط الذي التزمت به دول مجلس التعاون في التعاطي مع الملف اليمني، في حين كانت طهران تشجع الحوثي على التوغل واسقاط الشرعية الدستورية، ومن ثم يصبح المشهد هنا جلي وكاشف للمواقف، ولا يحتاج إلى تعليق.
المضحك في الأمر كله، أن الكاتب يقول أن حركة "أنصار الله" لجأت إلى إيران بعد تضييق الخناق عليها خليجيا، وأن تحركها هذا تصرف طبيعي لا تلام عليه، وفي هذا خداع للعقول، فالجميع يعرف طبيعة علاقة جماعة الحوثي بإيران منذ سنوات طويلة مضت، ولا حاجة لي بجلب عشرات بل مئات الروابط الالكترونية للبرهنة على طبيعة هذه العلاقة الممتدة وحدودها الزمنية وتأثيراتها الاستراتيجية!!.
الخداع ذاته يمارسه الكاتب على حالتي العراق وسوريا، ويقول أن الدول العربية قاطعت النظام السوري وفرضت العزلة عليه ومارست عليه أشد الضغوط ومن ثم لجأ إلى طهران!!! هكذا ببضع كلمات يحاول الكاتب إيهام القراء بأن علاقة النظام السوري بإيران بدأت بعد فرض العزلة العربية عليه، متناسيا موروث طويل وعميق من التعاون الاستراتيجي والوجود الايراني في سوريا منذ عقود وليس سنوات، والأمر كله يعود إلى فترة حكم الرئيس السابق حافظ الأسد وورثه بشار وليس في ذلك ما يخفى على أحد من متابعي الشأن العربي.
ربما اتفق مع الكاتب ، نسبيا، في مسألة عدم تقديم دعم عربي لعراق ما بعد سقوط صدام حسين، فقد ترك العرب بالفعل العراق ساحة تلهو فيها إيران لسنوات طويلة منذ عام 2003، ولكن ذلك لم يكن تعبير عن توجه أو قرار عربي بعزل العراق بل كان خياراً استراتيجياً للحكومات العراقية، التي أعرضت بوضوح وبقوة عن التعاون مع الدول العربية، وناصبت بعض دول مجلس التعاون، خصوصا المملكة العربية السعودية، العداء، ومع ذلك فقد أدرك معظم العرب جميع تلك الأخطاء وحاولوا مرارا فتح سفارات لهم في بغداد واستعادة التواصل مع الشعب العراقي الشقيق، ولكن لم يكن حظ تلك الجهود العربية أو نصيبها من النجاح والفاعلية بأفضل حالاً من حظ السنة العراقيين في داخل بلادهم.
لن اشتت القارئ أيضا بجلب عشرات البراهين على علاقات التحالف التي تجمع الحكومات الشيعية العراقية المتوالية بإيران، ويكفي الاشارة فقط إلى حملة "لبيك ياحسين"، وحجم الحشد الشيعي الذي يقوده الحرس الثوري الايراني، للدلالة على حجم النفوذ الايراني في العراق والطائفية البغيضة التي تنتهجها إيران والحكومة العراقية في التعامل مع شأن داخلي سيادي عراقي بالغ الحساسية والتعقيد سياسياً واستراتيجياً.
هنا تحديداً، لم يسأل الكاتب نفسه سؤالا بسيطا: لماذا ترفض حكومة العبادي تزويد سنة العراق بما يحتاجونه من أسلحة لطرد عناصر داعش من المحافظات والمناطق السنية؟
ولماذا تصر هذه الحكومة على رفض تزويد قوات البيشمركة الكردية بالسلاح اللازم للتعامل مع خطر داعش؟ قد نفهم قانونية هذا الموقف في ضوء متطلبات الحفاظ على سيادة الدولة العراقية وحصرية استخدام السلاح للجيش الوطني العراقي، ولكن حين تسمح هذه الحكومة بتسليح نحو سبعين ألفا من قوات الحشد الشيعي لمواجهة سيطرة تنظيم "داعش"على مناطق سنية عراقية، يصبح الأمر لا علاقة له بمسألة السيادة والأطر القانونية وله ارتباط واضح وقوي بالتوجهات المذهبية والطائفية البغيضة للحكومة المدعومة من إيران، لاسيما أن حكومة العراق التي تزويد السنة بالسلاح، هي ذاتها من يسمح للجنرال قاسم سليماني بأن يصول ويجول في أرض العراق ويظهر في عشرات الصور وسط أنصاره، ويصبح الحديث عن دور عربي سلبي مسألة مثيرة للسخرية بل واستخفاف بالعقول.
تدخلات طهران السافرة في دول عربية عدة ليست "شماعة" للهروب من استحقاقات واخفاقات عربية داخلية، كما يدعي الكاتب الايراني، فهي واضحة ومؤكدة بل وموضع فخر لساسة إيرانيين يتباهون علناً وعلى الملأ بأن بلادهم تسيطر على أربع عواصم عربية، فهل كان مطلوباً أن ينتظر العرب أن تواصل إيران حصد المغانم كي لا يضعوا أنفسهم في موضع اللوم؟!
في جزء أخير من مقاله يأتي الكاتب إلى بيت القصيد ويكشف عن وجهه وغرضه الحقيقي بشكل صريح حين يطالب العرب بالتحاور مع إيران "حول المشاكل القائمة"، وأنا هنا قد اتفهم اهمية الحوار كلغة حضارية بين الدول، ولكن عندما ينكر الكاتب أن لبلاده أطماع في هذه الدول وانها ذهبت فقط استجابة لنداءات استغاثة فلمَ الحوارإذاً؟ وعلى أي قاعدة يمكن التحاور مع طهران؟ وهل الحوار المطلوب هنا مع المغيث أم مع المستغيث؟
قبل أن يطالب الايرانيون العرب بالعقلانية والرشادة، ننصح الجار الايراني بأن يلتزم قواعد حسن الجوار، وأن يكف عن سلوك "البلطجة" الاقليمية وسياسات فرض الأمر الواقع بالقوة، وعلى طهران أن تدرك أن دول مجلس التعاون لم تعد الجار المستأنس الذي يخشى الضجيج الايراني، فعجلة الزمن لن تدور إلى الوراء، وأن "عاصفة الحزم" لم تكن مجرد عملية عسكرية عابرة بل محطة زمنية فاصلة بين زمنين، فما قبلها خليج ومابعدها خليج آخر، ولن يغير من هذه الحقيقة التلويح بقوة اقليمية بات الجميع على يقين من أنها ليست سوى نمر من ورق.