رغم أن بعض الباحثين والمحللين قد اعتبروا الاتفاق الذي وقعته طهران مع دول مجموعة «5+1» بشأن البرنامج النووي الايراني، يؤسس لحقبة جديدة من الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، ويبعد شبح الحرب وسيناريوهات المواجهة العسكرية التي ظلت تخيم علي المنطقة طيلة السنوات الأخيرة، فإن الواقع يؤكد أن هذا الاتفاق قد جنب إيران بالفعل خطر التعرض لضربة عسكرية وقائية، ولكنه يوفر لها بالمقابل ضوءا أخضر للتخلص من فائض القوة لديها، واتجهت إلي تصديره إلي الخارج من أجل تعزيز مشروعها الأيديولوجي الاقليمي، الذي يعتقد الساسة الإيرانيون أنه اكتسب زخماً إضافياً عقب توقيع الاتفاق النووي.
ولذا لم يكن من المفاجيء أن تتباهي رموز وقيادات إيرانية عدة باحتلال عواصم أربع دول عربية هي بيروت وصنعاء ودمشق وبغداد، ويعلن الجنرال رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الايراني الأعلي علي خامنئي، أن تأثير الثورة الايرانية يتسع، وأن الشعوب الاسلامية باتت تنظر بإعجاب إلي نموذج الديمقراطية الدينية في إيران!
في ضوء ماسبق لم يكن الانزعاج الخليجي من «توابع» الاتفاق النووي الايراني خارج نطاق المألوف السياسي، لاسيما أن التحولات الاستراتيجية الجارية في المنطقة تصب في مصلحة إيران، التي باتت تسعي لاقتناص دور حيوي ضمن قواعد النظام الاقليمي الجديد، الذي تعاد «هندسته» جيوبولوتيكياً وفق قواعد وأطر جديدة عقب غياب أو تغييب أدوار دول ظلت لعقود طويلة تمثل ركائز لهذا النظام وأعمدة راسخة له مثل العراق وسوريا. قد يكون من المهم عند دراسة مسارات العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي، الاشارة إلي أن هذه العلاقات ظلت تراوح بين مد وجزر منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979، إذ لم تشهد علاقات دول مجلس التعاون مع إيران فترات هدوء واستقرار طويلة، بل تأرجحت دوما بين التوتر بدرجاته المختلفة من ناحية، والهدوء المشوب بالحذر من ناحية أخري، لاسيما أن الثورة الايرانية قد وجهت مدافعها الكلامية الأيديولوجية منذ أيامها الأولي صوب جيرانها العرب حين رفعت شعار «تصدير الثورة» لتثير قلقاً عميقاً أنتج بدوره قيام منظومة عمل مشترك ظلت باقية حتي الآن، هي مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي يمثل في حقيقة الأمر استجابة سياسية ـ أمنية للخطر الأيديولوجي التوسعي القادم عبر الضفة الأخري من الخليج العربي، حيث تأسس المجلس عقب نحو ثمانية أشهر فقط من اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية واستشعار دول مجلس التعاون حجم الخطر الناجم عن فورة الشعارات الثورية الآتية من إيران، وما رافقها من غلبة التوتر علي البيئة الأمنية الاقليمية والدولية أيضا في ظل الغزو السوفيتي لأفغانستان، ما دفع دول المجلس الست إلي بناء منظومة للأمن الجماعي بمفهومه الشامل، رغم أن البيان التأسيسي الأول الصادر عن قمة المجلس في مايو 1981 بأبوظبي لم يتطرق إلي قضية الأمن بشكل مباشر، كما لم يشر إلي ذلك أيضاً النظام الأساسي للمجلس.
لم يكن القلق الاستراتيجي إزاء إيران بالأمر الطارئ علي دول مجلس التعاون حين قامت ثورة الملالي، فقد استبدل تلك الثورة القلق من نظام الشاه الذي كان يلعب دور الشرطي الاقليمي، بقلق أشد حيال نظام ثيوقراطي مؤدلج يرفع شعارات دينية ثورية ويسعي إلي تصديرها عبر مد شيعي يهدد الدول السنية المجاورة ويثير المخاوف المذهبية بعد فترة طويلة من الخمول الطائفى السياسي في هذه المنطقة من العالم، ومافاقم الشعور الخليجي بالقلق هو نشوب الحرب بين القوتين الاقليمين الأكبر وقتذاك ـ العراق وإيران.
وما أفرزه ذلك من سلبيات بالغة علي البيئة الأمنية لدول الخليج العربية، وضاعف من تأثير ذلك أن هذه الظروف قد ترافقت مع واحدة من فترات التدهور العديدة في تاريخ الجامعة العربية، عقب توقيع اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وماتلاه من نقل مقر الجامعة إلى تونس وتفكك البنيية الأساسية للعمل الجماعي العربي المشترك، واحساس دول الخليج بحجم الأخطار المحدقة بأمنها الوطني في ظل هذه الظروف الإقليمية والدولية المعقدة.
باختصار، فإن معادلة الأمن الخليجي قد تأثرت دوما بخطط إيران وطموحاتها الاقليمية، لذا لم يكن من الغريب أن تستشعر دول مجلس التعاون حجم الخطر الذي يمثله الطموح النووي الايراني علي أمن دول المجلس، لأسباب واعتبارات عدة بعضها بيئي يتلعق بمعايير الأمن والسلامة المتبعة في المنشآت النووية الايرانية التي تبعد عن بعض العواصم الخليجية مسافة أقل من تلك التي تفصل هذه المنشآت عن طهران، فضلا عن شبح التلوث البيئي في ظل تقادم التقنيات، التي اعتمدت عليها إيران في بناء منشآتها النووية من الجيل الأول المنقرض، والذي تسبب في حوادث تسرب نووية مهلكة في «تشرنوبيل» وغيرها، والبعض الآخر من هذه الأسباب ترتب علي ما يمثله امتلاك نظام ثوري ثيوقراطي قنبلة نووية من خطر داهم علي الأمن والاستقرار الاقليمي والعالمي.
وأعتقد أن الخطر الايراني علي أمن دول مجلس التعاون قد تفاقم عقب توقيع الاتفاق النووي لمبررات عدة، في مقدمتها شعور إيران بفائض قوة كانت قد سعت إلي تخزينه طيلة السنوات والعقود الماضية لمواجهة احتمالات الهجوم العسكري عليها. ومن قبيل الواقعية السياسية الاعتراف بأن إيران خرجت من هذا الاتفاق، وهي تشعر بالزهو والفخر الوطني، لاسيما أن لحظة الانتصار تلك قد ترافقت مع موجة تراجع عربي غير مسبوقة، وانهيار للعراق الذي ظل طويلاً يمثل حائط الصد في مواجهة خطط التوسع الايرانية إقليميا. ووفقا لأبجديات العلوم الاستراتيجية، فإن فائض القوة يغري الأنظمة بتحويله إلي فعل سياسي وربما عسكري، حيث يصعب علي معظم الأنظمة حبس هذا الفائض داخل حدودها أو الاكتفاء بتوظيفه سياسياً ودبلوماسياً، ويزداد الأمر صعوبة في ظل الأنظمة المؤدلجة التي تلجأ بسهولة إلي المغامرات العسكرية الخارجية للخلاص من كثير من إشكالياتها الداخلية، كما يزداد الخطر في حالة دولة مثل إيران تنظر باستعلاء إلي جوارها العربي، وتنطلق من رؤية تاريخية عرقية فارسية تغذي بدورها فكرة التمدد والتوسع الجيوبوليتيكي. إحدي الإشكاليات التي تواجه دول مجلس التعاون في التعامل مع إيران تتمثل في تلك الرؤية الفوقية الاستعلائية، التي تبرز بين الفينة والأخري في الخطاب السياسي الايراني، وهي لغة تعكس انعدام حسن النوايا، وما يؤكد ذلك هو التدخل الايراني المتواصل في الشؤون الداخلية لبعض دول مجلس التعاون، وفي مقدمتها مملكة البحرين ودولة الكويت، فضلا عن التهديدات الايرانية الصريحة مؤخراً بقصف المدن السعودية واحتلالها!! وإذا أضفنا إلي ذلك تعنت إيران ورفضها أي تسوية لقضية احتلالها للجزر الاماراتية الثلاث (طنب الكبري وطنب الصغري وأبوموسي) يتأكد لكل ذي بصيرة أن حديث إيران المتكرر عن حسن الجوار، وغير ذلك ليس سوي شعارات لا تستطيع إخفاء نوايا إيران التوسعية.
في مواجهة الخطر الاستراتيجي الايراني، فإن أحد أهم البدائل المطروحة أمام دول مجلس التعاون تتمثل في تفعيل حلقات الأمن الخليجي وركائزه الأساسية باعتبار أن آمن الخليج هو أحد أبرز حلقات الأمن القومي العربي، بما يعنيه ذلك من وجود دور حيوي للقوي الاقليمية العربية الرئيسية، وفي مقدمتها مصر، في تثبيت ركائز أمن دول مجلس التعاون، حيث يعد أمن دول مجلس التعاون جزءا لا يتجزأ من مفهوم الأمن القومي المصري، بحسب تأكيدات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أكد غير مرة أن أمن دول مجلس التعاون «خط أحمر» بالنسبة لمصر، وهذا الأمر يوفر قدرا من الطمأنينة والثقة لهذه الدول، ويجعلها بمنأي نسبياً عن تأثير التهديدات والتحديات الاستراتيجية التي تنتجها التفاعلات والصراعات الإقليمية العابرة للجغرافيا.