من يريد أن يتعامل مع إيران عليه أن يفهم المبادئ والأسس الحاكمة للتفكير الأيديولوجي لقادته ومرشديه ليتمكن من مقاربة سياساتهم والتعاطي معها بشكل صحيح.
يتوضّح هذا الفكر بالأساس في كتب وبيانات الخميني، لا سيما تلك المنشورة عقب الثورة مباشرة أي في أوائل ثمانينات القرن العشرين، والتي جاءت مشحونة بالأيديولوجيا؛ ففي بيان بمناسبة بدء السنة الإيرانية الجديدة، في نهاية مارس عام 1980، يقول الخميني “علينا أن نسعى إلى تصدير ثورتنا إلى العالم، وأن نتخلى عن فكرة الامتناع عن تصدير الثورة… ينبغي أن نصفي حساباتنا مع القوى العظمى والكبرى، وأن نبرهن لهم على أننا نتعامل مع المجتمع الدولي تعاملا رساليا رغم كل المعضلات التي نعاني منها”.
وفي بيان صادر في 30 يوليو 1988 نقرأ “سـنعمل بكـلّ وجودنـا علـى الحدّ مـن ظاهرة الإتاوة وحصـانة المسـؤولین الأمیـركیین وإن تطلّـب ذلـك نضـالا مستمیتا، ولا نسمح بترديد معزوفة الاستسلام والمساومة لأمیركا وروسـیا والكفـر والشـرك في الكعبة والحجّ، هذا المنبر العظیم الـذي ينبغـي لـه أن يوصـل نـداء المظلـومین للعـالم أجمـع، وأن يصـدح بنـداء التوحید. نسـأل الله أن يمـنّ علینـا بمثـل هذه القـدرة، لنـدقّ نـاقوس مـوت أمیركـا وروسـیا، لـیس مـن كعبـة المسلمین فحسب، بل من كنائس العالم”.
وفي بيان صادر باسم الخميني بتاريخ 23 مارس عام 1989 نقرأ أيضا “إن حكومـة الجمهورية الإسـلامیة مطالبـة ببـذل كـلّ مـا بوسعها لتلبیـة احتیاجات الجماهير على أحسن وجه؛ إلا أن ذلك لا يعني تخليها عن أهداف الثـورة العظیمـة المتمثلة فـي إقامـة حكومة الإسلام العالمیة”.
تعكس هذه المقتطفات الرسمية من أدبيات ثورة الخميني أمورا ودلالات عدة أولها أن تصدير الثورة والفكر الخميني يعتبر أحد مرتكزات الدولة الإيرانية، ولا يمكن بناء استنتاج تحليلي موضوعي بشأن إمكانية التخلي عنها تكتيكيا أو استراتيجيا، فهي عصب النظام ولا يمكن أن يكون له “شرعية” في عيون مؤيديه من دون هذه المبادئ والأسس.
وثاني هذه الدلالات أن فكرة تصدير الثورة لا تخص دول الخليج العربي المجاورة لإيران فقط بل تنطوي على بعد عالمي، ففي أحد البيانات المشار إليها سالفا ورد تعبير “حكومة الإسلام العالمية”، وهنا يبدو التقارب الأيديولوجي واضحا بين فكر رجال الدين الحاكمين في إيران من ناحية وفكرة البعض من التنظيمات مثل الإخوان المسلمين من ناحية ثانية.
تعامل الباحثون والسياسيون الغربيون لسنوات طويلة مع مصطلح “تصدير الثورة” ثم تناسوه أو تجاهلوه في السنوات الأخيرة. وانتقلت بؤرة التركيز البحثي من هذا المصطلح ومظاهره إلى فكرة “انتقال إيران من الثورة إلى الدولة”، ولا سيما مع صعود الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى الحكم عام 1997 وطرحه الدعائي حول “حوار الحضارات”، الذي أراد منه تجميل وجه الثورة الإيرانية وتسويق البعض من الشعارات المخاتلة لإيهام العالم بأن تغيّرا ما قد حدث، وهو ما ثبت زيفه لاحقا بوصول المتشدد أحمدي نجاد إلى سدة الحكم خلفا لخاتمي، الذي كان بمثابة “مخدر سياسي” للتمويه على العالم. ورغم أن الكثير من الباحثين المتخصصين في الشأن الإيراني يؤكدون أن مبدأ “تصدير الثورة” غير قابل للتطبيق، فإن الشواهد تؤكد أن إيران لن تتخلى عن فكرة تصدير ثورتها.
مبدأ تصدير الثورة بصعوده وبزوغه مجددا موثق في تصريحات الجنرال قاسم سليماني، الذي قال العام الماضي في أثناء الاحتفال بذكرى الثورة الإيرانية إن “مؤشرات تصدير الثورة الإسلامية باتت مشهودة في كل المنطقة؛ من البحرين إلى سوريا واليمن وحتى شمال أفريقيا”.
استعاد سليماني إذن مصطلح تصدير الثورة ودفع به إلى الواجهة مجددا، وهو ليس تصريحا عشوائيا ولا انفعاليا، ولا سيما أن سليماني هو أحد أبرز المقربين من المرشد الحالي علي خامنئي، بل يمكن القول إنه المسؤول الأول عن ملف التمدد الاستراتيجي الأيديولوجي الإيراني إقليميا.
لا يستقيم، هنا، القول إن الدوائر الغربية لا تقرأ جيدا ما يصدر على ألسنة القادة الإيرانيين، ولكن هناك نوعا من الانتقائية في التعامل مع هذه المسألة تحديدا، فالولايات المتحدة لم تكن غائبة حين وقع العراق بأكمله تحت نفوذ إيران. ولم تكن احتمالية هذه السيطرة الإيرانية الشيعية على العراق غائبة عن العقل الاستراتيجي الأميركي حين أمر بتسريح الجيش والشرطة العراقيين عقب سقوط نظام صدام حسين، فالتزامن بين تلك القرارات وبزوغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” لم يكن اعتباطيا، وما بين إيران والولايات المتحدة من تفاهمات سرية يفوق بمراحل لقاءاتهما وتصريحاتهما العلنية. ولا يستقيم أيضا القول إن الولايات المتحدة بذلت كل هذه الموارد البشرية والمادية والتسليحية من أجل أن يسقط صدام حسين ويقع العراق هدية مجانية في يد إيران، فالتخطيط الاستراتيجي الأميركي يمضي بالضرورة وفق حسابات القوة العظمى.
الإشكالية الأخطر أن العقل الاستراتيجي الأميركي يتغافل عن خطر النظام الإيراني ويعتقد أنه بإمكانه ترويضه، أو تدجينه، اعتمادا على غزو عقول وأفكار الشباب الإيرانيين بطوفان القيم الثقافية الأميركية، وهذا أمر ليس واردا على الأقل في الوقت الحالي، وهنا تكمن خطورة اللعبة الأميركية مع إيران، والتي يدفع جيرانها ودول المنطقة العربية ثمنها.