شعرت بالشفقة الشديدة حيال موقف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، الذي أوعز إليه أن يرد بتصريح على كلمة الشيخ عبدالله بن زايد، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أيام، فلم يجد الرجل ما يقوله، ردا على كلمة شهد لها جميع المتخصصين والخبراء بالرصانة والهدوء والرشاد الدبلوماسي، لم يجد سوى التفوّه بكلمات لا تسمن ولا تغني من جوع ناصحا بأن يتبع الشيخ عبدالله بن زايد “الواقعية” في حديثه، ثم لجأ إلى تكرار سلسلة من العبارات “الكلاسيكية”، التي اعتاد مراقبو السياسة الإيرانية على الاستماع إليها بملل شديد.
عندما قرأت تصريحات الناطق الإيراني استغربت بشدة من هذا الحديث، وأدركت بسرعة أن الرجل قد “وقع في الفخ” ولم يجد ما يردّ به تنفيذا لإملاءات المرشد الأعلى، فظهر بمظهر بائس لا يليق بناطق سياسي لخارجية دولة بحجم الجار الإيراني، والأرجح أن ما يعنيه السيد بهرام قاسمي في تصريحه الغريب هو الجزء الذي ورد في كلمة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وتحديدا قوله “لا يمكن أن تشغلنا أزمات المنطقة عن قضيتنا الوطنية الرئيسية المتمثلة في سيادة دولة الإمارات على جُزرها الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، والتي احتلتها إيران بالمخالفة لأحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة داعية إيران إلى إعادة الحقوق إلى أصحابها إما طواعية وإما باللجوء إلى الوسائل السلمية لحل النزاعات الدولية وعلى رأسها اللجوء إلى القضاء أو التحكيم الدوليين”، ثم توصيفه الموضوعي لسلوكيات إيران السياسية إقليميا منذ توقيع الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، حيث قال إنه “على الرغم من التوصل إلى ما يعرف بالاتفاق النووي بين طهران و دول 5+1، وعلى الرغم من ترحيب دول المنطقة بذلك الاتفاق، وخلافا لكل التوقعات المتفائلة بتغيير إيران لنهجها العدائي، سرعان ما اصطدمت هذه القراءة بواقع استمرار طهران في تقويض أمن المنطقة عبر الخطاب الملتهب والتدخل الفج وإنتاج وتسليح الميليشيات، ناهيكم عن تطوير برنامجها الصاروخي، وعن تصنيفها المقلق كدولة راعية للإرهاب، وهذه كلها سياسات رفضت طهران أن تتخلى عنها. وغني عن البيان أن بقاء السلوك الإيراني على حاله يؤكد طرحنا بأن الاستقرار في المنطقة مفتاحه التصدي للأزمات وحلها لا الاكتفاء بمحاولة إدارتها”.
لم يكن الشيخ عبدالله بن زايد يخاطب إيران في كلمته بكل تأكيد فهو يدرك تماما أن أصحاب العمائم الإيرانيين غائبون عن الواقع وقد أدركتهم نوبة من التهور السياسي فأغشت أبصارهم وأعمت قلوبهم، فمن يتبنى البلطجة الإقليمية منهجا في سياساته الإقليمية لا يمكن أن يفهم لغة العقل والحكمة، لذا فالخطاب كان موجها -بالدرجة الأولى- في هذا المحفل العالمي إلى المجتمع الدولي، الذي يعرف عن إيران وخروقاتها للقانون الدولي ما يفوق بمراحل ما ورد في كلمة وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة.
لم يستطع الناطق الإيراني بهرام قاسمي صياغة عبارة متماسكة تحفظ ماء وجهه في الرد على خطاب الشيخ عبدالله بن زايد لأن محتوى الخطاب جاء كاشفا لحقائق يعرفها الجميع: فهل تنكر إيران تدخلاتها الفجة في أزمات العراق وسوريا واليمن؟ ثم كيف لها أن تنكر ومسؤوليها يتباهون علنا باحتلال عواصم دول عربية بل ويعلنون على الملأ تشكيل جيش تحرير طائفي مذهبي يستهدف دولا عدة في المنطقة؟
يقولون إن بداية علاج المشكلة الاعتراف بوجودها من الأساس، فكيف لإيران أن تنخرط في حوار إقليمي جاد وهي لا تعترف بالمشكلات العميقة الناجمة عن سلوكياتها السياسية وتورطها المباشر في أزمات المنطقة؟ يبدو أن هذا الإنكار والسلوك المتغطرس هو السبب الذي يدفع الناطق الإيراني لوصف الحقائق بأنها “تهم واهية لا أساس لها”.
يقول الناطق الإيراني إن الإمارات تخلت عن “دورها التقليدي المحافظ” واعتقد أن هذا هو تحديدا ما يثير حفيظة إيران، حيث يشعرون بغيظ واحتقان دفينين من تحرك القيادة الإماراتية بوعي قومي تاريخي حين اتخذت قرارا بالتصدي الحازم والصارم لكل ما يمس أسس وقواعد الأمن القومي العربي، ومساندة الدول الخليجية والعربية في الحفاظ على دعائم الأمن والاستقرار لدول مجلس التعاون.
ظلت إيران تتصرف بغطرسة وكبرياء وغباء سياسي مع جيرانها من دول مجلس التعاون حتى أعماها الغباء والضلال السياسي عن رؤية الحقائق من حولها، فلم يتسن لها أن تدرك أن سلوكياتها لا يمكن الصمت عليها ولا الوقوف مكتوفي الأيدي تجاهها، لا سيما أن طهران قد تجاوزت وذهبت إلى حد الإضرار عمدا بالأمن الوطني لدول مجلس التعاون عبر وكلائها وعملائها في اليمن الشقيق.
فوق ما سبق، فإن تصريحات الناطق الإيراني لن تغير من الحقائق القانونية والتاريخية شيئا حين يصر على ترديد أكاذيب بلاده حول الجزر الإماراتية الثلاث، فالقضية من الناحية القانونية والتاريخية باتت واضحة للمجتمع الدولي ومؤسساته ومنظماته كافة، والوجود الإيراني فيها لا يمكن توصيفه سوى بأنه واحد من أسوأ أنواع الممارسات الاحتلالية.
أحد الجوانب المهمة الذي لم تنتبه إليه إيران أيضا في كلمة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان أنه دعا المجتمع الدولي للبحث عن حلول جادة لأزمات المنطقة وليس الاكتفاء بإدارتها، ويفترض أنه لا شيء يضير إيران أو غيرها في أن يبحث العالم عن حلول عادلة لأزمات المنطقة وقضاياها! ولكن لأن قادة إيران لهم أهداف أخرى غير التسويات والحلول، ويسعون إلى التوسع والاستحواذ والسيطرة والهيمنة ونشر الفوضى الإقليمية، فقد أزعجتهم اللغة الدبلوماسية والمطالب المنطقية التي دعت إليها دولة الإمارات على لسان وزير خارجيتها!
أخيرا، خدعوك يا سيد بهرام حين طلبوا منك الرد على كلمة رصينة بترديد تخرصات ومزاعم قديمة أكل عليها الزمن وشرب ولم يعد هناك من يصدقها سوى قادة إيران و”دراويشهم” في الداخل والخارج، أما أنت يا بهرام فقد قمت بدور “المهرج” البائس وسط “دراما” القضايا والأزمات الإقليمية المتفاقمة، التي تسعى دولة الإمارات إلى البحث عن حلول ومخارج جادة منها.