منذ أيام قليلة، نشر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مقالا في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، لم يتحدث فيه عن “الشيطان الأعظم” ولم يشر بعبارة واحدة إلى أي من الاتهامات التي يكيلها نظام إيران للولايات المتحدة في خطبه وتصريحاته المعتادة، بل تحدث بلطف بالغ عن “العالم الحر” المهدد من جانب ما وصفه هذا الظريف بـ“التشدد السني”.
يدرك ظريف أن مقاله، الذي نشر خلال فترة إحياء ذكرى اعتداءات 11 سبتمبر 2001، قد يكون له صدى لدى شريحة ليست قليلة من الجمهور الأميركي، ولكنه تجاهل أن مثل هذه الأصداء الوقتية لن تفلح في “بناء قضية” كما هو متعارف عليه في العلوم السياسية، لا سيما أن ظريف لعب دور محامي الشيطان الفاشل، الذي لم يقنعنا بقضيته، واكتفى بترديد مزاعم واهية وتحليلات لا أساس لها من المنطق أو العقل بل لم يجد حرجا في تحريض الولايات المتحدة ضد دولة مسلمة رغم أن الإيرانيين لا يكفون عن ادعاء الدفاع عن الشعوب والدول الإسلامية.
يدرك ظريف وملالي إيران أن الأجواء السياسية في واشنطن قد تكون مواتية للنيل من المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن، ولذا لم يهدروا الفرصة وانتقلوا إلى مربع الهجوم على المملكة عبر البوابة الإعلامية الأميركية “النيويوركية”.
الغريب أن ظريف لا يجد غضاضة في أن يتهم السعودية بما هو معروف وثابت عن إيران، فهو يتهم المملكة بدعم الميليشيات ونشر “الوهابية” زاعما أنها تحولت إلى “أيديولوجيا” تعتنقها الحركات الإرهابية المسلحة في العالم، ومعتبرا أن الإشكالية لا تتمثل في الصراع بين الشيعة والسنة بل بين السنة والوهابيين.
هذه التخرصات لا يمكن أن تنطلي على عقل طفل صغير فكيف يمكن أن يصدقها العقل الغربي؟ وأين هو الصراع السني ـ الوهابي الذي أشار إليه هذا “الظريف”؟ وإذا كان الأميركيون يمكن أن يصدقوا أكاذيبه فكيف يفسر لهم الميليشيات الشيعية التي تفسد في أرض العراق وسوريا واليمن؟
هذا المقال كشف لي أيضا أن ظريف يمكن أن يقنع دبلوماسيين بأكاذيبه ولكنه لا يمكن أن يقنع الجمهور العام لأنه يطرح أدلة وبراهين واهية بل فاضحة، فهو يقول إن السعودية تتبنى رؤية وصفها بالقاصرة تقوم على افتراض اعتبره “خاطئا” بأن “بث الفوضى في العالم العربي سيضعف إيران”، هل رأيتم سذاجة أكثر من هذا الطرح؟ شخصيا لا أعتقد، فالسعودية أو أي من دول مجلس التعاون لم تكن يوما بادئة بنشر الفوضى الإقليمية، فالجميع يعرف من نشر الفوضى في العراق وسوريا واليمن وحاول تمديد رقعتها في دول أخرى من بينها المملكة العربية السعودية ذاتها.
مقال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف يأتي ضمن حملة علاقات عامة إعلامية لغسل سمعة إيران في الأوساط الأميركية، وهي حملة تستند إلى جهد نشط للوبي الإيراني داخل الولايات المتحدة
يغالط ظريف التاريخ ويخاصمه أيضا حين يقول إن السعودية تحاول إحياء نموذج صدام حسين في العراق، وهذا الكلام يؤكد أن الإيرانيين يعيشون في الماضي ويتلبسون “شبح” صدام حسين، ويتصرفون بناء على ما ترسخ في أذهانهم من ذكريات مريرة عن تلك الحقبة الغابرة، التي تفسر الآن انتقامهم الغبي من شعب العراق الحر الأبي، وتحديدا من سنة العراق، الذين ينتمي إليهم صدام حسين.
في حديثه عن صدام حسين، كشف “الظريف” عن مكنون اللاوعي المحرك الذاتي للإيرانيين تجاه العراق، فالانتقام ثم الانتقام هو ركيزة سياستهم حيال هذا البلد العربي، ويريدون أن يمحوا ذكريات تلك الحقبة من ذاكرة الشعب الإيراني بالانتقام من سنة العراق واحتلال أراضيه.
يطالب ظريف الأمم المتحدة بالعمل على وقف تمويل التطرف والتحقيق في القنوات التي تستخدم لنقل الأموال للجماعات الإرهابية، ونحن بدورنا نضم صوتنا إلى صوته كي تكشف التحقيقات عن المزيد من الفضائح والجرائم التي تورطت فيها إيران ولا تزال، ويبدو أن الرجل لم يقرأ عن كم التحقيقات الذي أدان قادة إيران وساستها في تفجيرات وعمليات إرهابية من شرق العالم إلى غربه.
مقال ظريف يأتي ضمن حملة علاقات عامة إعلامية لغسل سمعة إيران في الأوساط الأميركية، وهي حملة تستند إلى جهد نشط للوبي الإيراني داخل الولايات المتحدة، وهذا حق إيران وأي دولة أخرى تسعى إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية، ولكن من الذكاء والحكمة ألا يشير المرء ـ ولو مجرد إشارة ـ إلى مزاعم واتهامات يعرف الجميع أنها وثيقة الصلة به، وليس من الفطنة أن تحاول إزالة بقعة سوداء من ثيابك ونقلها إلى ثياب الآخرين، فهذه عملية غبية بامتياز، فالإرهاب وإيران قرينان لا ينفصلان، فكيف يمكنك يا ظريف أن تقنع العالم بأن إيران باتت بين عشية وضحاها من المدافعين عن الأمن والاستقرار والدول المعادية للإرهاب؟ قد تفلح مثل هذه الجهود الإعلامية في تخفيف وطأة الاتهامات ضدك، ولكن من الغباء والسخف أن تحاول تحقيق هدفين في مقال واحد بأن تغسل سمعتك وتشوه سمعة الآخرين في الوقت ذاته أو في ضربة واحدة.
نذكر ظريف بأن العالم يعرف أن إيران نظام ثيوقراطي وليس نظاما ديمقراطيا كما يحاول حكام إيران الإيحاء بذلك، ويكفي هذا الكم من أصحاب العمائم في جميع مناصب الدولة ليتأكد الجميع من ثيوقراطية النظام الإيراني. وبالتالي فمحاولة ارتداء ثوب الضحية ولعب دور الحمل الوديع لن تنطلي على أحد، كما لن تنجح مقالات ظريف ولا جهود اللوبي الإيراني في استبدال إيران بالسعودية في الجرائم الإرهابية التي تأكد للسلطات الرسمية في الولايات المتحدة وغيرها أن إيران هي من تقف وراءها وتدعمها، ولو كانت السعودية تمول الإرهاب بالفعل فكان حريا بها ـ من الناحية النظرية ـ التشجيع على تنفيذ تفجير واحد في قلب طهران، بل على العكس من ذلك تماما، عانت مدن سعودية عدة من جرائم الإرهاب، التي اقتربت من الأماكن المقدسة في المملكة، في حين تعيش المدن الإيرانية سالمة بمعزل عن الإرهاب وجرائمه، ومن ثم لا يعقل أن يصدق العالم مزاعم ظريف ورفاقه الملالي.