لا يكف جنرالات الحرس الثوري الإيراني على اللعب بالنار واختبار إرادة الآخرين وصبرهم سواء في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أو في علاقات إيران المعقدة مع الغرب؛ فبعد أيام قلائل من اكتشاف مملكة البحرين خلية تجسس يمولها ويدربها الحرس الثوري، اقتربت زوارق إيرانية في مضيق هرمز من السفينة الأمريكية "يو إس ان إس إينفينسيبل"، واضطرتها إلى تغيير مسارها.
ورغم أن محاولات قطع بحرية إيرانية تابعة للحرس الثوري الاقتراب من قطع عسكرية بحرية أمريكية ومحاولة الدخول في مسافة الأمان الفاصلة حول هذه القطع مسألة متكررة، وتكاد تحدث بشكل دوري، وسبق أن اضطرت السفن العسكرية الأمريكية العام الماضي إلى إطلاق طلقات تحذيرية لإجبار القطع البحرية الإيرانية على الابتعاد، فإن تكرار هذه الحوادث لا يعني بالضرورة أن تمر بشكل آمن في كل مرة.
استراتيجية البقاء على حافة الهاوية، والتعامل من خلال ذلك مسألة بالغة الخطورة، وتنطوي على احتمالية عالية لنشوب أزمات عسكرية جراء سواء التقدير أو سوء الفهم في إدارة المواقف على الأرض من جانب المنفذين، أو من جانب القادة الميدانيين، الذين قد لا يستطيعون بناء تقديرات مواقف دقيقة لعواقب سلوكياتهم وتصرفاتهم في لحظات ومواقف معينة.
استراتيجية حافة الهاوية تستنسخها إيران تماماً من نظام كوريا الشمالية، وتحاول اللعب بنفس طريقته في إدارة علاقتها مع الغرب، حيث يلاحظ التشابه الكبير بين استخدام النظامين لورقة التجارب الصاروخية متوسطة وبعيدة المدى في استفزاز الغرب، فكوريا الشمالية لا تكف عن إطلاق الصواريخ لإثارة قلق ومخاوف دول الجوار الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وفي مقدمتها اليابان كما حدث مؤخراً، وهو ما يفعله الملالي أيضاً، حيث اختبرت إيران في فبراير الماضي صاروخاً باليستياً متوسط المدى!! ولكن ما تفتقر إليه طهران فعلياً هو عدم فهمها لمعطيات وظروف وبيئة الصراع مع النظام الكوري الشمالي، الذي يدير علاقته وفق هذه الاستراتيجية بحسابات بالغة الدقة، وفي ضوء توازنات عسكرية واستراتيجية وسياسية مغايرة كثيراً للحالة الإيرانية.
اللعب بالنار كما قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعليقه على تجربة إيران الصاروخية الأخيرة، ليس جديداً على السلوك الإيراني، ويعرفه جيداً مراقبي الشأن الإيراني، ولا جديد على هذا الصعيد، فالحرس الثوري يريد أن ينشر الفوضى والاضطراب في ظل مكان، لأن هذه بيئته المفضلة التي يجيد اللعب فيها جيداً، فمن خلال الفوضى تتوسع امبراطورية قادة الحرس وتتضخم ثرواتهم ويتزايد الطلب على بضاعتهم من العنف والقتل وسفك وتصدير والفتن المذهبية.
وفي ظل هذا الواقع، فإن على من يريد التعامل مع إيران بشكل واقعي أن يذهب للعناوين الحقيقية للحوار مع الملالي، وفي مقدمتهم المرشد الأعلى، الذي بيده سلطة الأمر والنهي في البلاد، ثم قيادات الحرس الثوري، الذين يسيطرون على نحو ثلث الاقتصاد الإيراني بحسب التقديرات الدولية، ويقودون القوة العسكرية الميهمنة في إيران، ودور اللواء محمد علي جعفري والجنرال قاسم سليماني معروف في تنفيذ سياسات المرشد خارجياً، وليس هناك أدل على ذلك من تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وإقراره مؤخراً، بأنه لا يمتلك الصلاحيات الكاملة فيما يخص الملف السوري، وأن وزارته تخضع في هذا الشأن لقرارات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي ينسق بين الأطراف الإيرانية المعنية بالملف السوري.
مجلس الأمن الوطني أو القومي الإيراني، الذي يتولى منصب الأمين العام له ويتحدث باسمه حالياً القائد السابق للحرس الثوري علي شامخاني، يتشكل بحسب المادة السادسة والسبعون بعد المائة من الدستور الإيراني برئاسة رئيس الجمهورية، ومهمة المجلس "تأمين المصالح الوطنية وحراسة الثورة ووحدة أراضي البلاد والسيادة الوطنية، ويتكون من رؤساء السلطات الثلاث، ورئيس هيئة اركان القوات المسلحة، ومسؤول شؤون التخطيط والميزانية، ومندوبان يعنيان من قبل القائد، ووزراء الخارجية والداخلية والأمن، والوزير ذو العلاقة طبقاً لمقتضيات الموضوع وأعلى مسؤولين في الجيش والحرس الثوري.
والواقع في ضوء ما سبق، يشير إلى أن محاولات جس النبض واختبار النوايا، التي يقوم بها الحرس الثوري تمثل أيضاً معضلة للغرب، الذي تحاول بعض دوله الاستفادة من رفع العقوبات الدولية عن إيران واقتناص جزء من "كعكعة"ما بعد العقوبات في صيغة عقود واتفاقات تجارة واستثمارات ضخمة، وهذا مايفسر تعبير أعجبني كانت قد استخدمته صحيفة "التايمز"في مقال نشرته منتصف الشهر الماضي، حين قالت إن الغرب بات "سجيناً"أو أسيراً للاتفاق النووي وليس النظام الإيراني، فالدول الغربية لا تستطيع كشف عورات اتفاق لعبت الدور الأساسي في صياغة بنوده والتوقيع عليه، ثم ما لبثت أن اكتشفت خروقات هذا الاتفاق، التي تستغلها إيران في إجراء تجارب صاروخية وتزعم أنها لا تخضع لبنود اتفاق لوزان الموقع عام 2015!
ستعمد إيران، على الأرجح، خلال الفترة المقبلة على اللعب داخل المنطقة التي تفصل بين مواقف غالبية الدول الموقعة على الاتفاق النووي معها من جهة، وموقف إدارة الرئيس ترامب من جهة ثانية، ويكفي أن بريطانيا، وهي الحليف الأطلسي الأقرب للولايات المتحدة، والتي باتت "شريكاً استراتيجياً لدول مجلس التعاون منذ قمة المنامة، ترفض بشدة وجهة نظر الإدارة الأمريكية المتعلقة بالاتفاق النووي؛ لذا فإن التنسيق الدولي حيال التهديد الاستراتيجي الإيراني مسألة حيوية بغض النظر عن بنود الاتفاق ومدى واقعيتها وجدواها، فإيران "حالة"متجددة تمثل تهديداً على الصعيدين الإقليمي والدولي، والتعامل معها ربما يتطلب بناء رؤية استراتيجية تتجاوز ما تم الاتفاق عليه في لوزان!!.