منذ تفاقم الأزمة إثر انتهاكات نظام الملالي واعتداءاتة المتكررة، سواء على ناقلات النقط أو بإسقاط طائرة أمريكية من دون طيار، يكرر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مقولة تفيد بأنه لا يريد الحرب مع إيران، ولكن الساعات الأخيرة شهدت اقتران هذه المقولة بتحذير مباشر وصريح من أن وقوع الحرب سيؤدي إلى «دمار هائل لم يره النظام الإيراني من قبل»، وأنه لا يرغب في فعل ذلك، والمغزى هنا يتعلق بحرب شاملة وليس بضربة أمريكية جوية صاروخية محدودة، وأن الرئيس ترمب يعتقد أن أي ضربة عسكرية ضد الملالي ستقود إلى صراع عسكري واسع النطاق على الأرجح.
المؤكد في النقاشات والجدل الراهن أن الولايات المتحدة والجيش الأمريكي تحديدا بات مطالبا برد اعتبار التقنيات العسكرية الأمريكية التي يزعم الملالي أنهم نجحوا في استهداف إحدى أيقوناتها عقب إسقاط الطائرة الأمريكية من دون طيار من طراز «غلوبال هوك»، نهاية الأسبوع الماضي، لذا نجد أن تقديرات جنرالات الجيش الأمريكي أشد وأقوى ميلا لتوجيه ضربة لإيران، وأن ما يحد هذه الرغبة القوية هو تفضيل الرئيس ترمب ذاته مواصلة الرهان على إمكانية جلوس قادة الملالي على مائدة التفاوض، ويكفي أن الرئيس ترمب ربما هو الوحيد بين أركان إدارته الذي يدعم فكرة المفاوضات، في حين يقف في صف الضربة أبرز مساعديه، ومنهم مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، إضافة إلى مديرة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) جينا هاسبل، داعمين لخطة تنفيذ الضربة الانتقامية أولا.
من المفارقة أن قرار الرئيس ترمب إرجاء الضربة العسكرية المحدودة لم ينل سوى تقدير خصومه الديمقراطيين الذين رأوا فيه ضبطا للنفس، حيث أعربت رئيسة مجلس النواب الأمريكي زعيمة الديمقراطيين في الكونغرس، نانسي بيلوسي، عن رضاها عن تراجع ترمب عن الضربة التي اعتبرت أنها كانت ستستفز الإيرانيين، وقالت بيلوسي «ضربة تخلف هذا الحجم من الخسائر ستكون أمرا مستفزا للغاية لذلك أشعر بالسعادة لأن الرئيس لم يأذن بها».
الإشكالية أن الرئيس ترمب لا يريد أن يقتنع ـ حتى الآن ـ أنه يتعامل مع نظام مغامر فاقد للعقل السياسي، وإلا ما معنى تجاهل كل هذه الرسائل التي بعث بها ترمب مع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي تارة، ومع وسطاء دوليين وإقليميين آخرين تارة أخرى، وآخرهم ما تناقلته التقارير حول تلقي طهران رسالة تحذير من ترمب عبر سلطنة عمان من هجوم أمريكي وشيك، وأعرب فيها عن أنه يعارض الحرب ويريد إجراء محادثات بشأن عدد من القضايا.
الإشكالية أيضا أن الرئيس ترمب يغامر بفقدان ثقة حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين في قدرتها على التصدي للتهديد الإيراني، وأن مصالح هؤلاء الحلفاء وأمنهم ليست ضمن أولويات البيت الأبيض، وهذه التداعيات سيكون لها كثير من النتائج، سواء على صعيد مستقبل الصناعات الدفاعية الأمريكية أو على صعيد مسارات التحالف الاستراتيجية بين دول الخليج العربية والقوى الكبرى مستقبلا.
حتى الآن، يظهر نظام الملالي سلوكا مغايرا ومناقضا تماما لغيره من الأنظمة المارقة، بل إن غطرسة هذا النظام وتهوره قد فاقا بمراحل سلوكيات كوريا الشمالية التي توقفت في مرحلة ما من التصعيد، واتجهت لفتح المسار الدبلوماسي، في حين لا يزال النظام الإيراني متمسكا بعنجهيته رافضا كل جهود الوساطة، معتقدا أن هذا المسلك سيؤدي في الأخير إلى استجابة الرئيس ترمب لشروط هذا النظام البائس، وأهمها رفع العقوبات الأمريكية قبل أي مفاوضات مزمعة!
الفارق بين نظام الملالي والنظام الكوري الشمالي في التعاطي مع العقوبات أن الملالي لا يضعون مصلحة الشعب الإيراني في اعتبارهم مطلقا، بل إن بوصلتهم الرئيسية هي مستقبل رؤوس النظام في الحكم، حيث يدركون تماما أن الشعب الإيراني سينقض عليهم ويتخلص منهم فور تضعضع عناصر قوة هذا النظام وضعف القبضة الحديدية للحرس الثوري الذي يحكم الإيرانيين بالحديد والنار.
وثمة فارق آخر بالغ الأهمية يتمثل في طبيعة نظام الملالي وميله إلى استعراض العضلات حتى لو على حساب الأمن والاستقرار الإقليميين، فلا يمكن تجاهل أن أحد أهم مكاسبهم من حادث إسقاط الطائرة الأمريكية من دون طيار أن نظام الملالي وفر لأتباعه فرصة ثمينة لترويج مزاعم إعلامية حول قدرات الحرس الثوري وقدرته على توجيه ضربات لأحدث تكنولوجيا التسلح الأمريكية من دون أن يخشى العواقب أو يتعرض لرد على أفعاله.