تستفيض وسائل الاعلام الموالية للنظام الإيراني وأذرعه الطائفية الإقليمية في نشر مكاسب الملالي من اسقاط الطائرة الأمريكية من دون طيار، وتشعر وأنت تقرأ بعض التحليلات أن مثل هؤلاء يفتقرون إلى أبسط إدراك ووعي بالفوارق الهائلة في مكونات وعناصر القوة العسكرية بين إيران والولايات المتحدة، ولا يدركون أن القوى الكبرى يمكن أن تتعامل مع مثل هذه الحوادث من خلال معالجات سياسية تحقق لها أقصى مكاسب استراتيجية ممكنة، بل تعتبرها أحياناً فرصة أو منحة جاءت في وقتها كي توظفها في تحقيق بعض
الأهداف الحيوية، ونتذكر جميعاً كيف استغل الرئيس بوتين حادث اسقاط تركيا لطائرة "سوخوي" روسية في تحقيق مجمل الأهداف الاستراتيجية الروسية في سوريا، مستغلاً رغبة الأتراك في إرضاء روسيا بأي شكل كي تتراجع عن أي رد عسكري على تلك الحادثة، التي دفعت الكثيرين وقتذاك إلى توقع رد فعل روسي عسكري عنيف، ولكن الرئيس بوتين اختار أن يحقق مكاسب بعيدة المدى أفضل من تحقيق انتصار عسكري سريع، لاسيما أنه الحادث لم يسفر عن خسائر بشرية حيث نجح الطيارين الروسيين في الهبوط من الطائرة المحترقة، وبموازاة ذلك هبط الرئيس بوتين الذي وصف الحادث بأنه "طعنى في الظهر من شركاء الإرهابيين" ومن التلويح بعواقب وخيمة على العلاقات بين موسكو وأنقرة، لينتزع من أردوغان مايريده، بل وينجح في الوقيعة بينه وبين حلف الأطلسي، الذي استغاث به الأتراك عقب حادث اسقاط الطائرة الروسية!
وبخلاف ذلك، هناك العديد من الأمثلة والنماذج على إدارة أزمات مشابهة بالطريقة ذاتها التي ينتهجها الرئيس ترامب حالياً، والتي يعتبرها البعض تردداً، بينما يراها آخرون ضعف في قدرة الرئيس ترامب على اتخاذ قرار الحرب، علماً بأنه وافق على توجيه ضربة عسكرية محدودة فجر الجمعة الماضية ثم سرعان ماتراجع عن القرار بنفسه عقب الاطلاع على معلومات يعتقد أنها تتطلب تأجيل الضربة أو الغائها في الوقت الراهن على الأقل.
يدرك الرئيس ترامب والاستراتيجيين الأمريكيين أن هذه الضربة قد تضع زمام المبادرة في يد ملالي إيران، وتترك إدارة الأزمة بين أيديهم وتخرج بقية السيناريوهات من مربع السيطرة الأمريكية، فعلى سبيل المثال لا يزال هناك، من وجهة نظر ترامب، فرصة لإخضاع نظام الملالي عبر تشديد العقوبات والتريث قليلاً حتى تؤتي أُكلها، وهناك فرصة لاستخدام الدبلوماسية السرية وخيارات عسكرية أخرى مثل الحصار البحري وغير ذلك من البدائل التي يمكن أن تتقوض جراء توجيه ضربة عسكرية محدودة سرعان ما تتوسع في حال اتجاه النظام الإيراني لتوجيه ضربات في نطاق جغرافي واسع ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
قد نختلف أو نتفق مع وجهة نظر الرئيس ترامب، ولكن علينا أن نتفهم دوافعه ومبرراته، لاسيما أن الأزمة كلياً ستنتقل في فترة ما ـ طالت أم قصرت زمنياً ـ إلى مائدة التفاوض، وعلينا في دول مجلس التعاون أن نكون شركاء حقيقيين للولايات المتحدة، ونستوعب دوافع الإدارة الأمريكية سواء استقرت على خيار الحرب أو المفاوضات، فالأوضاع معقدة للغاية والنظام الإيراني عدو يفتقر إلى العقل والمنطق في ردود أفعاله، ويحتاج التصدي له إلى مقاربات في منتهى الحذر والحكمة والذكاء كي نحافظ على زمام المبادرة ولا نترك له الأمور يتصرف فيها وفق سيناريو الخراب والدمار الإقليمي الذي يسعى إليه بكل قوة وحماس.
لم يكن الرئيس ترامب بالتأكيد يريد التهرب من اتخاذ قرار الرد حين قال أن هناك غبياً داخل إيران قرر اسقاط الطائرة الأمريكية، فهو يريد أن يقول أن عليه تفادي مجاراة هؤلاء الأغبياء، وعدم تركهم يمسكون بزمام القيادة في هذه الأزمة بالغة الحساسية، فترامب أشار إلى أنه لن يخضع لإيران "لأن ذلك يشجع كوريا الشمالية"، ما يعني أنه يدرك حقيقة ترابط الأزمات وتماهي النظامين المارقين مع بعضها البعض واستفادة كل منهما من الدروس التي يوفرها تعامل الاخر مع الولايات المتحدة.
عقلية الرئيس ترامب في إيلام الخصم ربما تختلف عن عقلية الساسة التقليديين، فهو يريد أن يحقق أقصى درجات الألم ولكن ليس بالضرورة من خلال ضربة عسكرية حاسمة، ربما لأنه يدرك أن مثل هذه الأنظمة الديكتاتورية لن يؤلمها مقتل الآلاف وربما الملايين من شعوبها، ولكن يوجعها للغاية أن تشعر بالتهديد الذاتي وأن تنظر للمستقبل بخوف على المناصب والكراسي التي تجلس عليها.
اعتقد أن الرئيس ترامب يمضي جاداً في مسار بناء قضية ويحشد الرأي العام العالمي وربما يحصل لاحقاً على موافقة مجلس الأمن على عملية عسكرية محدودة ضد إيران سواء من خلال تحالف دولي محدود أو الولايات المتحدة بمفردها، وفي كل الأحوال فإن شعور النظام الإيراني بالتهديد والقلق يبقى أكثر فاعلية من اندلاع الحرب، فهذا النظام البائس هو من يعيش تحت الضغط الآن وهو من يفكر في مصيره وكيفية ملاقاة ضربة أمريكية لا يعلم مصدرها ولا توقيتها، وهذا السيناريو هو الأكثر نجاعة، برأيي، لكسر أنف المرشد الأعلى على خامنئي ودفعه لتجرع السم والقبول بشروط تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.