هناك موقف واضح ـ حتى الآن ـ للرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن بشأن أهمية استحضار دول الجوار الايراني في أي مفاوضات مقبلة مع ملالي إيران، وهذا بحد ذاته يضمن معالجة أحد أهم ثغرات الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين طهران ومجموعة "5+1"، والذي لم يراعي أهم هواجس الأمن الاقليمية حيث تم عزل النقاش الدولي حول البرنامج النووي الايراني عن البيئة الأمنية، فضلاً عن تجاهل روافد هذا البرنامج وما يرتبط به من أمور حيوية في مقدمتها البرنامج الصاروخي الايراني بالغ الخطورة.
هنا يجب أن نتذكر جيداً أن دول مجلس التعاون حين "باركت" هذا الاتفاق عقب توقيعه مباشرة، وقبل أن تكتشف ثغراته ونواقصه وما تسبب فيه من ممارسات إيرانية كارثية، لم تكن تتخيل أن الولايات المتحدة في ظل رئاسة باراك أوباما يمكن أن توقع اتفاق خاو لا يتضمن أي تفاهمات أو اتفاقات حول ترتيبات الأمن الاقليمي، ولا البرنامج الصاروخي الايراني، ليس فقد بحكم علاقات التحالف الاستراتيجية القائمة بين هذه الدول وواشنطن، ولكن أيضاً لأن استقرار منطقة الخليج العربي بما تمتلك من أهمية استراتيجية كبرى في حسابات المصالح الأمريكية يمثل أولوية لا خلاف عليها بين المتخصصين والمعنيين، وبالتالي يصبح تجاهل هذه الحسابات بمنزلة خطأ استراتيجي فادح وقعت فيه إدارة الرئيس السابق أوباما.
والحقيقة أن حديث الرئيس المنتخب بايدن عن إشراك دول مجلس التعاون في أي مفاوضات قادمة مع ملالي إيران، والاشارة تحديداً إلى المملكة العربية السعودية ودولة الامارات، هو بمنزلة العودة للمسار السليم وتصحيح لخطأ ترتب عليه سلبيات كبيرة، ولأن أي اتفاق موسع أو معدل أو مطور ـ بغض النظر عن الصيغ والمسميات، يجب أن يتلافي سلبيات الاتفاق الحالي، ويسهم في تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي ومراعاة الهواجس الأمنية لدولها؛ ويجب ألا تكون المشاركة الخليجي المفترضة موضع تحفظ أو اعتراض إيراني سواء بحكم منطقية الأمر، أولأن هناك سوابق دولية مماثلة كما حدث في المفاوضات السداسية التي جرت حول البرنامج النووي الكوري الشمالي، وشارك فيها ممثلي دول الجوار مثل روسيا والصين وكوريا الجنوبية.
والحاصل أن الملالي قد استبقوا أي موقف أمريكي رسمي بشأن المفاوضات، وبعدما استشعروا توجه الرئيس بايدن في هذا الشأن، إلى إبداء رفضهم لمشاركة دول الجوار في أي مفاوضات قادمة، وهذا الأمر متوقع تماماً ولا مفاجأة فيه، ليس فقط لأن الملالي لا يريدون مناقشة ممارساتهم الاقليمية في أي مفاوضات، ويحاولون تفكيك العلاقة بين برنامجهم النووي وسياسات الهيمنة التي يمارسونها في المنطقة، ولكن أيضاً لأنهم لا يريدون بناء علاقات ندية عبر ضفتي الخليج العربي، وهذه إحدى معضلات هذا النظام الذي ينظر بفوقية إلى جواره الاقليمي، ثم يدعي استعداداً للحوار!
ذكرتُ من قبل أن ملالي إيران قد استبقوا الأحداث والقوا بكرة البداية في ملعب الرئيس المنتخب بايدن من خلال السعي لعرض شروطهم للتفاوض، والآن يواصلون هذا المسعى إثر استشكاف نوايا الطرف المقابل، وإعلانه الرغبة في إشراك دول الجوار الايراني، حيث بادر وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف للقول في "تغريدة" عبر موقع "تويتر"، أن بلاده لن تتفاوض مع الغرب حول سياساتها الإقليمية، وقال ظريف "لن نتفاوض مع الغرب حول سياساتنا الإقليمية، وتدخلاتهم (في المنطقة) هي أساس المشاكل"
وأشار إلى أن إيران مستعدة دائمًا للحوار والتفاوض مع جيرانها في الخليج، وقال "نحن على استعداد دائم للحوار مع جيراننا وترجمناه في طرح مشاريع أمن المنطقة 1986 ومجمع الحوار الإقليمي 2016 ومبادرة هرمز للسلام 2019"، والوزير الايراني يعرف تماماً أنها كلها مبادرات علاقات عامة دعائية، لم يكن لها أي نصيب من الجدية ولم تطرح أساساً للنقاش في إطار عملي.
الأهم هنا أن ظريف قد ترك للمتحدث باسم وزارته سعيد خطيب زادة ـ في إطار لعبة تقاسم الأدوار ـ دور الولد الشقي الذي يتطاول على دور الجوار برسائل تحمل مضامين يضمرها قادة الملالي، وذلك في تصريحات قال فيها زادة "على هذه الدول أن تعي مكانتها، وأن تتحدث وفقا لقدراتها"، وهو قول صائب تماماً، ولكن هذا النظام البائس يريد أن يواصل العيش في جُب عميق كي لا يعترف بالحقائق، فمسألة مكانة الدول وقدراتها تحددها التقارير والاحصاءات الدولية الرسمية وليست الأفكار التي تعشش في خيال الملالي، فدول مجلس التعاون تعي مكانتها وتتحدث بالفعل وفقاً لقدراتها ولكن الملالي لا يريدون رؤية الحقيقة التي تبدو كالشمس في نهار صيف قائظ، ويواصلون العيش في أوهام صنعوها لأنفسهم!
هذه اللغة الاستعلائية الفوقية البغيضة تنسف في التو واللحظة ادعاءات ملالي إيران المتكررة حول الاستعداد للحوار مع دول الجوار، فأي حوار يمكن أن يتم بين أصحاب هذه اللغة ودول يشهد لها العالم أجمع بما حققت من تقدم وتطور وتجارب تنموية يحتذى بها، ثم ألا يخجل هؤلاء من مؤشرات التدهور المعيشي والتنموي التي يعانيها الشعب الايراني قبل أن يلجأووا إلى هذه اللغة الخشبية البائدة التي لم يعد لها وجود في العلاقات الدولية المعاصرة سوى في هذه العقول البليدة؟!
الحقيقة المؤكدة أن مثل هذه التصريحات الغبية توفر علينا الكثير من الجهد في اثبات سوء النوايا التي تضمر الشر، وهو خير برهان على ضرورة تمسك دول مجلس التعاون بأن يكون لها دور في أي مفاوضات مرتقبة مع هذا النظام، حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، وهذا هو موضوع الحوار الأهم حالياً مع الإدارة الأمريكية المقبلة للبحث في صيغ وشكل وحدود الدور الخليجي في أي مفاوضات مرتقبة كي لا ينجح هؤلاء في زرع ألغام أو "تفخيج" علاقات الشراكة الاستراتيجية القوية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة الأمريكية.