هناك شواهد عدة على أن الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن يتجه نحو حسم قرار عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الموقع مع إيران، ولكن تبقى كيفية هذه العودة وهل هي عودة مشروطة أو بناء على تفاهمات معينة وراء الكواليس مع نظام الملالي، أم ستكون عودة غير مشروطة على أمل أن تعقبها جولات تفاوضية أخرى لتحسين شروط الاتفاق. موقف الإدارة الأمريكية الجديدة لم يعد يقتصر على تصريحات الرئيس المنتخب، بل بات يتضمن موقف آخر لنواب ديمقراطيين في الكونجرس، حيث ذكرت تقارير اخبارية أن 150 نائباً من الحزب الديمقراطي وقعوا على رسالة دعم لخطة الرئيس المنتخب لإعادة الولايات المتحدة للاتفاق النووي دون أي شروط جديدة!
لو صحت التقارير الخاصة بعدد النواب الديمقراطيين الموقعين عليها، فإن ذلك يعني شل قدرة الكونجرس على عرقلة خطة بايدن بشأن العودة للاتفاق النووي، وهذا يعني وقوع الولايات المتحدة في خطأ استراتيجي بالغ التأثير سواء لتجاهل وجهات نظر حلفائها في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، أو لأن العودة غير المشروطة لاتفاق ملىء بالثغرات سيمثل انتصاراً سياسياً كبيراً للملالي من دون حصول الولايات المتحدة سوى على وعد لا يساوي شيئاً من قادة النظام الايراني بالامتثال الصارم بشروط هذا الاتفاق.
المعضلة أن هذه المقايضة (العودة للاتفاق مقابل الامتثال بشروطه) هي صفقة خاسرة بكل المقاييس لسبب بسيط أن إدارة الرئيس ترامب لم تنسحب من الاتفاق النووي بسبب تجاوز الملالي لشروط الاتفاق النووي، بل لعيوب هيكلية وأساسية في بنود هذا الاتفاق بغض النظر عن التزام الجانب الايراني به من عدمه، فالاعتراضات والانتقادات الموجهة للاتفاق ظهرت منذ توقيعه مباشرة وليس بعد تطبيقه وتجاوز الملالي لشروطه، ولا سيما ما يتعلق بنسب تخصيب اليورانيوم، علماً بأن هذه الاختراقات قد بدأت أساساً عقب الانسحاب الأمريكي منه في عام 2018 وليس قبل ذلك، ما يعني أن العقبة لا تكمن في الامتثال للشروط بل في هيكل وجوهر الاتفاق ذاته.
الخطورة في هذه الحالة أن هناك تعاطياً "حزبياً" مع الاتفاق، فالديمقراطيين يتعاملون معه باعتباره أحد إنجازاتهم التي تحققت في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وأن العودة إليه تمثل استعادة لمصداقيتهم، وهي وجهة نظر تتجاهل الشق الاستراتيجي في تقييم هذا الاتفاق، بدليل أن الرئيس بايدن ذاته يعتقد ان العودة للاتفاق ستكون مدخلاً لتحسين شروطه والعودة مجدداً لمائدة التفاوض مع الملالي بحثاً عن صيغة أكثر شمولاً للاتفاق، حيث يبدو الأمر وقد تحول إلى مناكفة سياسية تتجاهل مستوى الخطر الايراني المتنامي وتمنح الملالي هدايا مجانية لكسب الوقت وتحقيق أهدافهم التوسعية من دون أي عائد يذكر للولايات المتحدة وحلفائها!
الحقيقة أن هناك اعترافاً ضمنياً بعدم كفاية الاتفاق النووي الذي وقعته مجموعة "5+1" ونظام الملالي في عام 2015، وهذا الاعتراف لا يقتصر على النخب السياسية الأمريكية، ديمقراطيين وجمهوريين، ولكنه يشكل أيضاً الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) والتي تسعى أيضاً منذ فترة طويلة لاقناع الملالي بالانخراط في مفاوضات حول البرنامج الصاروخي الايراني والسياسات الاقليمية الايرانية، من دون أي جدوى!
النقطة الأهم فيما سبق أن التوجه الخاص بالعودة الأمريكية غير المشروطة للاتفاق، يمثل انتصاراً سياسياً للملالي، ويعني كذلك ضياع أثر سياسة العقوبات الصارمة التي انتهجتها إدارة الرئيس ترامب من أجل اخضاع النظام الايراني وإجباره على قبول التفاوض مجدداً بشأن شروط الاتفاق، كما يشكك الكثيرون حول العالم في آليات صناعة القرار في القوة العظمى الوحيدة الميهمنة على النظام العالمي القائم، وهل تتم بطريقة مؤسسية كما هو متداول، أم بقرار فردي يمكن الغائه او الالتفاف عليه، بحيث استطيع القول ـ من الآن ـ أن بإمكان الملالي استنزاف وقت الولاية الرئاسية الأولى للرئيس بايدن من دون التوصل إلى أي صيغة جديدة لتحسين شروط الاتفاق القائم، بل يمكن توقع تمادي الملالي في سياساتهم التوسعية ومواصلة تهديد حلفاء الولايات المتحدة ومراكمة القوة العسكرية الصاروخية بحيث يصعب الضغط عليهم لاحقاً للقبول بتسويات مقبولة حول مجمل البنود الخلافية مع هذا النظام.
ثمة طريق ثالث يستحق البحث عنه للخروج من معضلة انخراط الولايات المتحدة في الاتفاق النووي مجدداً من دون شروط، فالاتفاق الذي كان يستهدف ضمان الأمن والاستقرار الاقليمي لم يحقق ـ منذ توقيعه ـ أياً من أهدافه، لذلك فإن العودة الأمريكية إليه يجب أن تكون مرهونة باستئناف التفاوض حول توسيع الاتفاق أو إضافة ملحق له يتضمن بقية البنود التي تؤسس لأمن واستقرار اقليمي حقيقي في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها كبح الطمح الايراني للهيمنة على بعض دول المنطقة، واستمرار الملالي في تمويل تنظيمات طائفية تتسبب في نشر الفوضى والاضطرابات فضلاً عن برنامج الصواريخ الباليستية التي تهدد دول المنطقة وتطال القارة الأوروبية.
الخلاصة أن أي قرار أمريكي بالعودة غير المشروطة للاتفاق النووي، سيكون قراراً مفخخاً من شأنه أن يضر بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية على المدى البعيد، ويقوض علاقات الإدارة الجديد مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة، وبداية غير موفقة لإدارة جديدة تسعى إلى تبريد ملفات خارجية عدة والتفرغ لمعالجة قضايا وأزمات الداخل الأمريكي، وهذا كله يؤسس لحقبة جديدة من العربدة الايرانية في الاقليم، بل يمكن أن ينتهي بدفع الولايات المتحدة إلى تصويب موقفها بخوض صراع عسكري واسع لا ترغب فيه مع ملالي إيران، الذين لا يشك أي مراقب موضوعي في أنها ستندفع بقوة لاتمام كل طموحاتها وأحلامها الاستراتيجية خلال فترة وجيزة.