مؤشرات كثيرة تلفت انتباهي ـ كمراقب ـ في الأحداث المتسارعة التي تخص الملف الايراني، ولكن أكثر هذه المؤشرات هو المستوى الخطير من الضعف والترهل الداخلي الذي تعانيه مؤسسات نظام الملالي، وهنا نتحدث تحديداً عن مؤسسات حيوية للغاية، يفترض أنها تمتلك أعلى درجات الرقابة والاحترازات الأمنية، ولكن الأحداث تثبت أن الأمر عكس ذلك تماماً، وأن طرف ما قد استطاع أن يثبت للجميع سهولة اختراق المنظومات الأمنية الايرانية المهترأة، والأمر هنا لم يقتصر على اغتيال أبرز عالم نووي إيراني في وضح النهار، بل والدخول إلى "قدس الأقداس" ودرة تاج الحلم النووي الذي يمثل لب الخلاف القائم بين هذا النظام والولايات المتحدة!
المتخصصون والمراقبون يعرفون جيداً منشأة "نطنز" النووية الايرانية، باعتباره إحدى أهم مرافق البرنامج النووي الايراني، فهي أكبر منشآة لتخصيب اليورانيوم، وتضم العدد الأكبر من أجهزة الطرد المركزي، وتقول التقارير أن مبانيها الواقعة تحت الأرض تضم أكثر من 50 ألف جهاز، ولذا من البديهي أن تكون هذه المنشأة تحت مجهر الرقابة والقلق الدولي منذ الكشف عن وجودها في عام 2002، ويفترض بالتبعية أن تحظى بحماية أمنية فائقة تمنع استهدافهاً، لا سيما على الصعيد السيبراني. وحادثة التفجير التي تعرضت لها هذه المنشأة مؤخراً تنطوي على إشارة مهمة، حيث ذكر تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية نقلاً عن مصدر استخباراتي أن استهداف "نطنز" قد تم بواسطة عبوة ناسفة تم تهريبها إلى داخل المفاعل وتفجيرها عن بعد، وأن الانفجار قد أحدث أضرار جسيمة بأنظمة الكهرباء الأساسية والاحتياطية، وأن الأمر قد يستغرق فترة أشهر لإصلاحها، ولكن هذه المسألة ليست مؤكدة ـ برأيي ـ ولا حتى مؤثرة في التحليل النهائي كونها تتعلق بشق عملياتي تنفيذي قد يقصر وقد يطول بحسب التأثير الحقيق للتفجير وحدود قدرة الطرف المتضرر على التعامل معه ومعالجته، بينما يبقى الجانب الأهم في الحادثة في دلالاتها سواء من حيث التوقيت أو المكان أو طريقة الاستهداف ووسائله .
ويمكن القول أن استهداف هذه المنشأة تحديداً ليس الأول من نوعه، فالكل يذكر تعرض "نظنز" في يوليو من العام الماضي إلى انفجار استبعدت وكالة الطاقة الذرية الايرانية في البداية أن يكون نتيجة عمل تخريبي، ثم أعلن الأمن الايراني أنه قد تعرف على منفذ الهجوم ودوافعهم وطريقة تنفيذه، ونقلت وكالة "رويترز" عن ثلاثة مسؤولين ايرانيين ـ وقتذاك ـ قولهم أن الانفجار نتج عن هجوم سيبراني"، بينما أعلنت جماعة غير معروفة تطلق على نفسها اسم "فهود الوطن" مسؤوليتها عن التفجير، وتحدثت هذه الجماعة عن هجمات أخرى عديدة نفذتها في الداخل الايراني، فيما أعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني أنه على علم بالسبب في "الحادث" ولكنه لن يكشف عنه في الوقت الحالي "لأسباب أمنية". وقبل هذا الهجوم، تعرض "نظنز" كذلك في عام 2010 لهجوم سيبراني شرس، من خلال فيروس "ستوكسنت" الشهير الذي تسبب في تعطيل أجهزته الالكترونية. وقد صنّف الخبراء والمتخصصون هذا الهجوم في إطار الحرب السيبرانية المحتدمة بين إيران واسرائيل، حيث تتردد بين الفينة والأخرى أخبار هجمات يشنها طرف ضد الآخر، منها احباط جهاز الأمن الالكتروني الاسرائيلي احباط هجوم وصفه بأنه ضخم ضد منظومة المياه الاسرائيلية، ثم استهداف ميناء "الشهيد رجائي" الحيوي الواقع جنوب إيران، بهجوم سيبراني نفته السلطات الايرانية واوعزت الأمر إلى صعوبات لوجستية في الطرق المؤدية للميناء، لكن هذا الحادث جاء في سياق سلسلة من الانفجارات والحرائق المتوالية التي شهدتها إيران العام الماضي، وجميعها وقعت في مرافق حيوية ومنشآت حساسة تمس عصب الاقتصاد الايراني.
النقطة الأهم هنا لا تتعلق بمستوى الضرر الذي أصاب منشأة "نطنز" في التفجير الأخير ولكن في سهولة اختراق الاجراءات والجدار الأمني الذي يفترض أنه يحمي بشكل كامل مرفق استراتيجي بهذا المستوى من الحساسية والخطورة، ولكن الوقائع التي توالت على إيران في الأعوام الأخيرة تفسر جانباً كبيراً مما حدث؛ فعندما يغتال أبرز علماء البرنامج النووي الايراني في قلب البلاد، وعندما تتم سرقة الأرشيف النووي الايراني ونقله إلى الخارج في عملية استخباراتية معقدة تحدث عنها "الموساد" الاسرائيلي علناً، وبصورة نادرة، وعندما تتعرض المرافق الحيوية لسلسة متتالية من الحرائق والتفجيرات التي نُسبت إلى مجهولين، وفشلت آلة الدعاية الايرانية في التعتيم عليها، فإن الأمر يتعلق بفشل كبير في الجانب الأمني لنظام الملالي.
الخطورة في هذه المسألة بالنسبة لدول المنطقة جميعها أن اختراق أنظمة الأمن في المنشأت النووية الايرانية يعكس مستوى الترهل والتقادم الذي يحول دون اكتشاف خطط وعمليات التجسس وكذلك التصدي للهجمات السيبرانية، ناهيك عن مؤشرات الخيانة الداخلية، التي قد ترتبط بمستويات كراهية النظام والاحباط الذي يعانيه العاملين بهذه المرافق، وجميعها علامات خطر تنذر امكانية وقوع حوادث تسرب كارثية من أحد المنشآت النووية الايرانية حال تعرضها لتفجير أو حادث يدمر أجهزة التحكم والرقابة والحماية من التلوث والتسرب الاشعاعي.
في السابق كانت دول مجلس التعاون تخشى تقادم أنظمة الحماية التكنولوجية في المفاعلات النووية الايرانية وعدم توافر الأمان النووي المطلوب في مثل هذه المنشآت الحساسة، ولاسيما "بوشهر" بحكم كونه الأقرب جغرافياً لهذه الدول، ولكن الأحداث التي تقع بين الفينة والأخرى تضيف عامل خطورة آخر يتمثل في ضعف أنظمة الحماية الأمنية بما يجعل المنشآت النووية الايرانية مصدر تهديد دائم للمنطقة بأكملها.