لا اعتقد أن موقف وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف بشأن تدخل الحرس الثوري في السياسة الخارجية الايرانية، مفاجئاً لأحد، فكثيراً ما طفت على السطح بعض التسريبات أو الإشارات الدالة على مستوى تبرم وزير الخارجي الايرانية من تجاهل دوره في بعض الملفات الاستراتيجية التي يهيمن عليها تماماً قادة الحرس الثوري، ولاسيما ملفي العراق وسوريا؛ فالحقيقة أن علامات غضب ومعاناة وزير الخارجية الايراني جواد ظريف من هيمنة قادة الحرس على ملفات تقع في صميم عمله، لها سوابق عدة لعل أشهرها ماحدث في فبراير عام 2019، حين ظهرت أزمة تتعلق باستقالة ظريف من منصبه في واقعة وصفتها صحيفة "ابتكار" الاصلاحية وقتذاك بأنها "صرخة مرتعشة"، فرغم أن ظريف يدرك تماماً أن السياسة الخارجية الايرانية ليست حكراً على وزارته وأن
هناك دور أهم للمرشد الأعلى في صياغة الخطوط العريضة لهذه السياسة، وهناك الحرس الثوري والرئيس ومجالس وصاية عديدة داخل هذا النظام الثيوقراطي المعقد، فإن ظريف احتج حينها عبر استقالة "افتراضية" بررها بأنه "لم تعد له قيمة" إثر تغييبه عن لقاءات أجراها الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته إلى طهران مع المرشد علي خامنئي والرئيس روحاني، وقال ظريف إنه "عقب انتشار صور الاجتماعات، لم يعد لجواد ظريف قيمة كوزير الخارجية أمام العالم"، فيما رأى آخرون في طهران حينذاك أن موضوع تغييبه عن اللقاءات ليس سوى "شماعة" بينما السبب الأساسي للاستقالة هو الخلافات الداخلية التي اعقبت انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وتحميله مسؤولية ذلك.
الشاهد فيما سبق أن ظريف يشعر بأنه وزير خارجية الملف النووي، وليس وزير خارجية دولة لها علاقات دولية واقليمية متشابكة، حتى أنه يغيب عن أبرز ملفات وزارته، ولذا فإن عامل التوقيت هو المتغير الأهم والأخطر في أزمة التسريب الصوتي المنسوب للوزير الايراني، والذي ينتقد فيه أنشطة الحرس الثوري وتقويض دور الجهاز الدبلوماسي الايراني؛ فمن الصعب فهم أبعاد ودوافع هذه الأزمة بمعزل عن عنصر التوقيت، وهنا نشير تحديداً إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الايرانية في يونيو المقبل، واستئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي الايراني في فيينا. ورغم أن جود ظريف يبدو ابناً من أبناء نظام الملالي المخلصين للغاية، ووجها ناعماً له في الخارج، حتى أن بعض الاقلام الغربية تنعته بأنه "جوبلز" النظام الايراني، فإن دخوله ـ ولو بحديث ذا طابع سري ـ إلى "مربع المحرمات" للملالي بتوجيه نقد غير مباشر للجنرال قاسم سليماني ، الذي يضعه الملالي في خانة "القديسين" ليس لدوره في تحقيق أهداف النظام فحسب، ولكن أيضاً لأن الملالي فشلوا في "الثأر" لمقتله فاضطروا إلى منحه "هالة" تعوض هذا الفشل وتحول دون تعريضهم للانتقادات من جانب عائلته وتلاميذه وأنصاره المقربين.
التسريبات التي وصفها بيان الخارجية بأنها مجتزأة من حوارات داخلية لم يكن من المقرر نشرها، تناولت رفض جواد ظريف لتدخل الحرس الثوري والجنرال سليماني تحديداً في صياغة السياسة الخارجية لدرجة يكاد يغيب فيها دور وزارته، بالإضافة إلى ترجيح خيار الصراع والقوة الخشنة في التعامل مع الأزمات بدل معالجتها بالسبل الديبلوماسية، وورد فيها قول ظريف بشأن القائد السابق للحرس الثوري الذي اغتيال في العراق "كان سليماني يفرض شروطه عند ذهابي لأي تفاوض مع الآخرين بشأن سوريا، وأنا لم اتمكن من اقناعه بطلباتي، وعلى سبيل المثال طلبت منه عدم استخدام الطيران المدني في سوريا ولكنه رفض".
ثمة نقطة مهمة تتعلق بحجم الغضب من تسريبات ظريف في دوائر عديدة منها مجلس الشورى الايراني، الذي كتب رئيسه محمد باقر قليباف عبر "تويتر" منتقداً حديث ظريف بالقول "لن نسمح لمن يريدون انتهاز الفرص للوصول إلى أهدافهم السياسية، بأن يظلموه (يقصد سليماني) أو يقلبوا دوره التاريخي"، بينما اعتبر منصور حقيقت بور، نائب رئيس لجنة الأمن القومي، أن وزير الخارجية تجاوز "الخطوط الحمر للنظام" مطالباً بمساءلته ، بينما لوّحت النائبة زهر اللهيان، عضو لجنة الأمن القومي، بإمكانية طلب "ملاحقة قضائية وقانونية" ضد وزير الخارجية. وفي جميع الأحوال فإن التسريب يعكس حجم الاختراق الذي يعانيه نظام الملالي، سواء من دوائر المعارضة ( نقلت هذه التسريبات في البداية محطة "إيران إنترناشيونال" الإيرانية المعارضة) أو من أجهزة استخبارات تابعة لقوى اقليمية أخرى في مقدمتها اسرائيل، التي نفذت عمليات عدة ناجحة داخل إيران في الأشهر الأخيرة.
اللافت أنه رغم الهجوم الحاد من الدوائر المتشددة داخل نظام الملالي، فإن ظريف لم يبادر بالاعتذار عما ورد في حديثه، بل اكتفى بالاعراب عن أسفه لأن تسريب التسجيل الصوتي قد أشعل فتيل جدل داخلي، وقال إن "النقاش العاطفي الصادق" الذي قيل في جلسة خاصة أسىء تفسيره وتحول إلى "نقد شخصي"، وأنه هدف إلى لفت الانتباه لوجود حاجة لإجراء "تعديل ذكي للعلاقة بين الدبلوماسية والجيش".
الرئيس روحاني اعتبر أن الهدف الأساسي من وراء نشر التسريب هو اثارة الشقاق في داخل النظام الايراني وعرقلة أي نتائج قد تثمر عنها مفاوضات فيينا بشأن الاتفاق النووي، وقال إن نشر التسريب جاء "عندما كانت محادثات فيينا في أوج نجاحها"، مايثير التساؤلات حول مصير أي تفاهمات قد يتم التوصل إليها في هذه المحادثات في ظل الجدل الداخلي الراهن، حيث يعتقد البعض أن هذه الأزمة قد تنتهي إلى إقالة أو استقالة ظريف من قيادة الدبلوماسية الايرانية، وهذا أمر وارد بشكل كبير. ولكن هناك أيضاً احتمالية لتفسير تسريب حديث ظريف لاثارة قلق الولايات المتحدة وخشيتها من ابتعاد أو إبعاد الرجل الذي يمكن عقد "صفقة" معه، ومن ثم دفعها إلى تقديم تنازلات سريعة في مفاوضات فيينا، بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات متوقعة على مسار التنافس في انتخابات الرئاسة الايرانية.
ورغم أن البعض يرى أن التسريبات تكشف وجود رؤوس متعددة في قمة هرم نظام الملالي، وأن مركز الحكم متعدد وأن المرشد الأعلى خامنئي ليس الحاكم المطلق، وأن قادة الحرس الثوري هم من يحكمون"، فإن ذلك لا ينفي أن التسريبات لا تعكس ـ برأيي ـ وجود انقسام ولا صراعات داخلية، ولكنها أزمة اختصاصات تتماهى مع طبيعة مثل هذا النظام الثيوقراطي المنغلق، وهي تعكس الصراع بين شخصيات وليس على مبادىء النظام والثورة، التي يريد لها ظريف ـ بحسب مدلول تسريباته ـ أن تعمل بكفاءة أكبر، فالوزير الذي ينظر إليه متشددو الملالي إليه باعتباره أمريكي الهوى، يشكو من تحجيم قدرته على تحقيق انجازات للنظام وليس العكس.
السرية والغموض اللذان يكتنفان أداء نظام الملالي يقللان من فرص كشف أبعاد نشر هذه التسريبات وفهم ماورائها، ولكن تطورات المرحلة المقبلة سواء في الداخل الايراني، أو في تعاطي نظام الملالي مع مفاوضات فيينا، قد يفسران جانباً كبيراً مما وراء هذه الواقعة.