يدرك المراقبون أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تنظر لأزمات منطقة الشرق الأوسط بنفس درجة الأهمية والأولوية التي كانت تمتلكها إدارات سابقة، ويعود السبب في ذلك ـجزئياً ـ إلى انشغال هذه الإدارة بقضايا الداخل بشكل أكبر من ذي قبل، فضلاً عن تركيزها الشديد على التصدي للنفوذ العالمي الصيني المتزايد، ولكن المؤكد أن الرئيس بايدن الذي رفع منذ بداية ولايته الرئاسية شعار "أمريكا عائدة" يعي جيداً الارتباط القائم بين تحقيق الاستقرار في اليمن من ناحية وبين كف أيدي ملالي إيران عن هذا البلد العربي من ناحية أخرى.
وتعد تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ بمنزلة اعتراف واضح وصريح بحجم الدور الذي يلعبه ملالي إيران في تأجيج الأزمة اليمنية من خلال دعم حركة "أنصار الله" الحوثية، وهو دعم وصفه كينغ نفسه أمام جلسة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي بأنه "كبير جداً وفتاك"، مشيراً إلى أن "إيران تدعم الحوثيين بطرق عديدة، منها من خلال التدريب وتزويدهم بدعم فتاك ومساعدتهم على صقل برامجهم للطائرات المسيرة والصواريخ"، وأنه لا يرى أي مؤشر على أن إيران تدعم الحل السياسي في اليمن، وأردف: "ما أراه هو دعم متواصل وتحريض لجيش من الحوثيين من قبل الإيرانيين حتى يتمكنوا من مواصلة الهجوم على السعودية، وللأسف هذه الهجمات تزايدت بقوة في الشهرين الماضيين".
هذه الخلاصة التي توصل إليها المبعوث الأمريكي منذ توليه منصبه يفترض أن تسهم في بلورة موقف أمريكي يجسد التزام إدارة الرئيس بايدن بايجاد تسوية سياسية لهذه الأزمة، لاسيما أن الملالي قد تخلوا عن حالة النفي والانكار بشأن دورهم في دعم الحوثيين، وباتوا يتحدثون علناً عن أنشطة عسكرية داعمة للحوثي في مواجهة المملكة العربية السعودية، حيث ذكر الجنرال رستم قاسمي المساعد الاقتصادي لقائد الحرس الثوري الايراني في حديث خاص لـRT، أن الحرس الثوري قدم السلاح لجماعة "أنصار الله" الحوثية في بداية الحرب اليمنية، ودرب عناصر من قواتها على صناعة السلاح، معترفاً بمساعدة الحوثي في صناعة الأسلحة بتكنولوجيا إيرانية وبتقديم دعم عسكري وصفه بالمحدود! وهذا الاعتراف الايراني النادر بمساعدة الحوثيين عسكرياً لم يأت اعتباطاً، بل جاء في وقت حيوي للغاية، حيث يسعى الملالي من خلاله إلى استثمار هذا الدور والاستفادة منه بشكل أكبر ضمن "صفقات" يجري التفاوض بشأنها مع قوى اقليمية ودولية، فلم تكن المغامرة بتقديم هذا الاعتراف على طبق من فضة للآخرين سوى محصلة المفاضلة بين الخسائر والارباح المحتملة لحالتي نفي وتأكيد دور نظام الملالي في استمرار الأوضاع المتأزمة في اليمن.
وبالمناسبة، لا يقلل اعتراف المسؤول الايراني بمحدودية الدور العسكري الايراني في اليمن وأنه يقتصر "حالياً" على استشارات عسكرية من خطورة وتأثيرات هذا الدور، فلم يقل أحد أن هناك عناصر من الحرس الثوري تقاتل إلى جانب الحوثيين، الذين لا ينقصهم من البداية العدد، بل العتاد والمعدات، هو ماقدمه الملالي ولا يزالون عن طريق التهريب والمساعدة في صناعة الأسلحة والمتفجرات وغير ذلك، ولكن لا يمكن مطلقاً التسليم بصحة مايقوله الجنرال رستم قاسمي بشأن نقل تكنولوجيا التصنيع العسكري الايرانية إلى الحوثي، لأن الملالي يدركون ببساطة مدى خطورة وقوع هذه التكنولوجيا في الأيدي الخطأ، لا سيما ما يتعلق بالطائرات الايرانية المسيرة والصواريخ دقيقة التوجيه، وبالتالي فإنه لو سلمنا بصحة تصنيع هذه الأسلحة في اليمن، فإن علينا بالتبعية التسليم بأنه ـ بالاضافة إلى الحفاظ على سرية المعدات والتكنولوجيا ـ فإن عملية التصنيع في مراحلها الحساسة تتم بالكامل تحت إشراف إيراني في اليمن في مراحلها كافة، نظراً لسهولة التنقل وتهريب المعدات والخبراء الايرانيين بطرق شتى.
قبل هذا الاعتراف الصريح والمباشر حول دور نظام الملالي في حرب اليمن، كانت هناك إشارات وتلميحات ضمنية تأتي على استحياء ولا تلفت الانتباه حول هذا الدور، وآخرها تصريح وزير الخارجية الايراني جواد ظريف في مارس الماضي، في لقاء مع قناة "برس تي في" الإيرانية، والذ قال فيه إن إيران "لم تتلق أي مقترح بوقف دعم طهران للحوثيين، مقابل وقف دعم واشنطن عمليات التحالف في اليمن"، ومتسائلاً :"هل يمكن مقارنة الدعم الذي قدم للحوثيين بما لدى الرياض وأبوظبي؟"، وهي جملة عابرة في تصريحاته ولكنها تنطوي على اعتراف من المسؤول عن الدبلوماسية الايرانية بتقديم دعم للحوثي بغض النظر عما إذا كان هذا الدعم كبيراً أم محدوداً، فهذه تقديراته وهو يدرك تماماً مدى صعوبة التيقن من حجم هذا الدعم، الذي يأخذ أشكال وطرق وقنوات متعددة يصعب للغاية تقديم صورة دقيقة بشأنها. وقناعتي أن الملالي يتعمدون كشف دورهم في اليمن الآنلأن الهدف الأساسي لهذا الدور بات في دائرة الضوء، فربط قضيتها ومفاوضات برنامجها النووي بدورها ونفوذها الجيوسياسي في اليمن مسألة أساسية ولن يتم تحقيقها وحصد ثمارها سوى من خلال التسليم بوجودها والاعتراف به علناً كي يمكن استثماره على طاولة المفاوضات سواء من خلال الحصول على تنازلات أمريكية بشأن برنامجها النووي، أو فرض نفسها كطرف لا غنى عنه في جهود تسوية الأزمة اليمنية لضمان تحقق المصالح الاستراتيجية الايرانية التي تقف وراء دور الملالي في هذا الصراع منذ البداية.
ورغم كل الصعوبات والتعقيدات، فإن من المفترض ألا يُكافىء الملالي بعد اعترافهم الصريح بالتورط المباشر في حرب اليمن، حيث يعني هذا الاعتراف مسؤوليتهم التضامنية المباشرة عن الهجمات التي تعرضت لها المنشآت المدنية والنفطية في المملكة العربية السعودية، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات في القانون الدولي.