تشهد الانتخابات الرئاسية الايرانية المقررة في الثامن عشر من الشهر الجاري غياباً للتنافس الفعلي بسبب تضييق الخناق على المرشحين الأكثر قدرة على المنافسة وجذب اهتمام الناخب الايراني، حيث استبعد مجلس صيانة الدستور ثلاثة من أبرز المرشحين وهم الرئيس الأسبق أحمدي نجاد ورئيس مجلس الشورى السباق على لاريجاني والمرشح المحسوب على مايعرف بالتيار الاصلاحي اسحاق جهانغيري، بالاضافة إلى ثماني مرشحين آخرين يفترض أنهم يمثلون جبهة الاصلاحيين الايرانيين، ومن ثم سيطر التيار الأكثر تشدداً على قائمة تضم سبعة مرشحين، حتى أن الرئيس حسن روحاني انتقد ماوصفه بالاستبعاد الجماعي لعدد من المرشحين، ودعا في رسالة أرسلها إلى المرشد الأعلى علي خامنئي للتدخل لتوفير "منافسة أكبر" في الانتخابات، وهو ماقوبل برفض من الأخير الذي عاد لاحقاً وأقر بتعرض بعض المرشحين للظلم، داعياً إلى تعديل الأخطاء وهو تصريح استهدف فيما يبدو احتواء الغضب لأن القائمة النهائية للمرشحين تحظى بموافقة المرشد قبل إعلانها ما ينفي فكرة اعتمادها من دون الحصول على ضوء أخضر بذلك.
والحقيقة أن المنافسة باتت واقعياً محصورة بين سبعة مرشحين أبرزهم ابراهيم رئيسي أحد أبرز المقربين من المرشد الايراني علي خامنئي، وقد حصل في الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2017، التي فاز فيها روحاني بفترة رئاسية ثانية، على 38% من أصوات الناخبين، ويعتبر رئيسي مرشح المرحلة لأسباب عدة أهمها أنه يحتفظ بعلاقات قوية مع جناحي القوة في نظام الملالي: المرشد الأعلى والحرس الثوري الايراني، فضلاً عن كونه المرشح المفضل لدى الجناح الأكثر تشدداً في النظام.
وطالما عٌرف رئيسي بقاضي الاعدامات، حيث كان واحداً من القضاة الذين كانوا يشكلون ماعرف بلجنة الموت، التي أصدرت أحكاماً بالاعدام ضد الكثيرين من عناصر المعارضة رغم انتهاء فترات العقوبة في السجون، وظل دائماً موضع ثقة المرشد الحالي حتى أن معظم التوقعات كانت تشير إلى أنه الخليفة المحتمل لخامنئي، وأن ترشحه للفوز بمنصب الرئيس إنما يعد تأهيلاً له لتولي المنصب الأكثر أهمية وحساسية على قمة نظام الملالي، واعتقد أن الاصرار على تهيئة أجواء الفوز أمامه بهذه الطريقة المكشوفة يستهدف تجنب خسارته للانتخابات بأي شكل من الأشكال، لأن الخسارة تضعف للغاية فرص تعيينه مرشداً أعلى لفقدانه للثقة الشعبية في دورتين انتخابيتين متتاليتين، مايجعل من الصعب اختياره خلفاً لخامنئي حال وفاته. ويعد سعيد جليلي، الأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي الايراني والمفاوض السابق بشأن البرنامج النووي، المنافس المحافظ الأقرب لمنافسة رئيسي على الفوز في الانتخابات المقبلة، حيث حصل في انتخابات عام 2013 على أربعة ملايين صوت وحل ثالثاً في تلك الانتخابات.
ورغم غياب التنافس، فإن هذه الانتخابات تحظى بمتابعة دولية بالنظر إلى وجود قلق دولي من أن يكون لها تأثير سلبي محتمل على موقف إيران في المفاوضات الجارية في فيينا بشأن العودة للاتفاق النووي الموقع عام 2015، حيث تخشى الدوائر الغربية أن يسيطر المتشددين بشكل كامل على دوائر السلطة في نظام الملالي، ما يجعل التفاوض معهم أكثر صعوبة مما هو حاصل حالياً.
والواقع أن تهيئة مسرح السياسة الايرانية لفوز مرشح متشدد يعني أن المرحلة المقبلة هي الأكثر صعوبة بالنسبة للتفاوض مع الولايات المتحدة، فرغم أن المرشد الأعلى هو صاحب القول الفصل في السياسة الخارجية الايرانية، وأن كل الخطوات لا تتحقق سوى بضوء أخضر مباشر منه شخصياً، فإن وجود شخصية متشددة في منصب الرئاسة يعني اكتمال دائرة التشدد في مؤسسات السلطة الايرانية، بعد سيطرة المتشددين على مجلس الشورى والقضاء، وهو ماقد يعني تغيرات في التكتيكات وليس في الاستراتيجيات، فالفريق التفاوضي الحالي في فيينا يتلقى التعليمات ظاهرياً من الرئيس روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، ولكنه ينفذ فعلياً تعليمات المرشد الأعلى ويلتزم بأوامره والخطوط الحمر التي يرسمها للرئيس والخارجية الايرانية؛ ولذا فإن وجود مفاوض محسوب على التيار الأكثر تشدداً في إيران سيثير قلق الغرب وربما يدفع الولايات المتحدة لتقديم المزيد من التنازلات، ما يعني أن تغيير الوجود هو في حقيقة الأمر يندرج ضمن لعبة توزيع الأدوار التي يجيد خامنئي توظيفها في فترات المد والجزر في العلاقات مع الولايات المتحدة.
صعود التيار المتشدد إلى سلم الرئاسة الايرانية لا يعكس بالضرورة قوة نظام الملالي بل يعكس ضعفه وتراجع قبضته على السلطة، حيث يخشى خامنئي التأثير المتفاقم للعقوبات الأمريكية، لذا يريد تغيير تكتيكات التفاوض وإظهار وجه أكثر خشونة وتشدداً، لعل ذلك يسهم في الاسراع بالخروج من قبضة العقوبات، ولكنه يتحسب كذلك للفشل في التوصل إلى تسوية بهذا الشأن، ويعتقد أن وجود رئيس مقرب من الحرس الثوري ومؤسسة ولي الفقيه يدعم تماسك النظام وقوته في مواجهة أي غضب شعبي جارف.