المؤكد أن المرشد الايراني الأعلى هم من يجلس على قمة هرم السلطة في نظام الملالي، وأنه "الرجل الأول" في البلاد، بما يمتلك من صلاحيات واسعة، خصوصاً في مجال السياسة الخارجية، وبالتالي فإن الجدل بين المحللين حول "بصمات" متوقعة للرئيس الايراني الجديد يبدو خارج سياق الواقع، ويعكس انسياقاً وراء الدعاية السياسية الايرانية التي تعتمد على لعبة توزيع الأدوار التي يجيدها النظام الايراني. ومن تابع مشهد الانتخابات الرئاسية الايرانية التي جرت في الثامن عشر من الشهر الجاري، يدرك بسهولة كيف تمت "هندسة" السباق الانتخابي لمصلحة فوز مرشح محدد يٌنظر إليه باعتباره "رجل المرحلة" الذي يستطيع القيام بالدور المرسوم له بدقة من جانب المرشد الأعلى.
ورغم تهيئة المسرح الانتخابي بعناية شديدة لفوز مرشح المرشد، لدرجة استبعاد الرئيس الأسبق أحمدي نجاد بدعوى "عدم الأهلية"، ناهيك عن استبعاد علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى السابق وأحد المعروفين بولائهم لمبادىء "ثورة الخميني"، فإن حملات مقاطعة الانتخابات قد أثرت سلباً بشكل واضح على المشهد الانتخابي، الذي كان يراد له أن يكون تصويتاً بالثقة في سياسات النظام من جانب نحو ستين مليون ناخب إيراني، ولكنه فشل في تحقيق ذلك بسبب تغليب الرغبة في ضمان فوز مرشح محدد على اعتبارات وقواعد تضمن وجود الحد الأدنى من التنافسية، ولاسيما بعد انسحاب محسن زادة المرشد الوحيد المحسوب على التيار الاصلاحي من الانتخابات قبل يومين من الاقتراع.
وقناعتي الذاتية أن تنظيم انتخابات وهندستها لمصلحة مرشح واحد لا ينافسه أحد بشكل حقيقي يعني انحسار ثقة الملالي في شعبيتهم لدرجة غير مسبوقة، وهو ما عكسته نتائج المشاركة الشعبية، التي تمثل تطوراً مهماً للغاية في العلاقة بين النظام والشعب الايراني، حيث نجحت المعارضة في استغلال أخطاء الملالي في إعداد المشهد الانتخابي بهذه السذاجة السياسية من أجل اجهاض خطة النظام للحصول على شرعية شعبية زائفة من خلال صندوق الانتخابات "المبرمج".
وصف المرشد الأعلى علي خامنئي دعوات المقاطعة بأنها تعبر عن "إرادة أعداء الديمقراطية الدينية"، مسلطاً الضوء مجدداً على "نظريته" التي قال بها منذ سنوات وأصدر فيها مؤلفاً يتضمن آرائه حول "الحكومة الاسلامية وشرعيتها" ليضع من خلالها بصمته الذاتية وتنظيره ـ كمرشد ـ على هياكل الحكم التي أسسها خامنئي في إطار نظرية ولي الفقيه، وساعياً إلى تحقيق إضافة نوعية في الفقه السياسي الشيعي، باعتبار أن "الحكومية الاسلامية" ترتكز على "شرعية إلهية" وتتشكل من قيادات تتمتع بالصلاحية الدينية وفق المعايير التي يحددها الملالي من خلال مجلس صيانة الدستور، وتتأسس على "رأي الشعب"، ولابد لها أن تمتلك شروطاً ثلاثة هي الصلاحية الدينية والشعبية والفاعلية، وهي معايير يضعها ويقيسون فاعليتها وتطبيقها الملالي أنفسهم!
وفي ضوء ماسبق، يبدو أن المغزى الأساسي في تمسك الملالي بالمشاركة الشعبية يكمن في أنهم ينظرون إلى الانتخابات باعتبارها تصويت على مبادىء الجمهورية الاسلامية، وليس فقط لمصلحة مرشح معين سواء في الرئاسة أو الانتخابات البرلمانية، لذلك فإن تراجع المشاركة الشعبية يعد ضربة قوية للنظام لأنه يعكس أولاً قدرة المعارضة على الحشد عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وهذا بحد ذاته يمثل تطوراً خطيراً يثير تكهنات بشأن امكانية تكرار المسيرات الاحتجاجية التي قام النظام بقمعها في السنوات الأخيرة، وثانياً لأنه يعكس ارتفاع مستوى الغضب الشعبي واتساع الهوة التي تفصل بين نظام الملالي والناخبين الايرانيين.
والحقيقة أن الاهتمام النسبي بمتابعة انتخابات الرئاسة الايرانية هذا العام عائد بالأساس إلى أن الملالي قد عمدوا إلى ربطها بما يحدث في مفاوضات فيينا، بمعنى تعطيل التوصل إلى اتفاق حتى تتضح هوية الفائز بالانتخابات لأسباب واعتبارات عدة في مقدمتها تفويت الفرصة على الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني بتحقيق نصر سياسي في نهاية مدته، وتعزيز موقف الرئيس الجديد باستهلال فترة حكمه باختراق سياسي يتمناه ويسعى إليه الملالي من خلال رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
الحقيقة كذلك أن الجالس على قمة هرم نظام الملالي هو من يحدد هوية "رجل المرحلة" وسياساته سواء تجاه مفاوضات الاتفاق النووي أو غيرها، وليست مواقف وتوجهات الرجل الثاني في إيران، انطلاقاً من أن لكل مرحلة من ينفذ متطلباتها، ومثلما كان الرئيس الأسبق محمد خاتمي مطلوباً في مرحلة معينة من تاريخ النظام الايراني، كان أحمدي نجاد أيضاً مطلوباً في مرحلة أخرى، وهكذا يمضي كرسي الرئاسة بين تغيير وآخر ومد وجزر وتشدد ومرونة، ولكن هذا كله لا يعكس سوى ما يدور في عقل المرشد ورؤيته لإدارة علاقات إيران الخارجية، وبالأخص فيما يتعلق بالحوار مع الولايات المتحدة.