منذ الإعلان عن مطالب روسية تتعلق بالحصول على ضمانات أمريكية كشرط لإستكمال مفاوضات إحياء الإتفاق النووي الايراني، ورغم التكهنات العديدة حول مصير هذه المفاوضات في ظل الشروط الروسية، فإن الواقع يفيد بأن الأمور تتجه للانفراج، وأن هناك تفاهمات تم التوصل إليها بين الجانبين الروسي والأمريكي بهذا الشأن.
الاشارة الأولى على الإنفراج جاءت على لسان نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية الذي قال في مؤتمر صحفي يوم الخامس عشر من مارس الجاري أنه لن تتم معاقبة الشركات الروسية المشاركة في المشروعات النووية الإيرانية، معتبراً أن هذه المشروعات هي جزء من الإتفاق النووي ولا تمثل منفذا لتهرب روسيا من العقوبات الغربية التي فرضت عليها بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا.
في ضوء ماسبق يبدو أن هناك إتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران على تجنيب مايخص طهران في صفقة إحياء الإتفاق النووي، ولكن يبقى تفسير مسألة الإقتراب من التوصل إلى تفاهم لإحياء الإتفاق النووي مسألة صعبة بالنظر إلى أن مفهوم القرب الزمني من توقيع الإتفاق يتردد أحياناً ويتراجع أحياناً أخرى طيلة الأشهر الماضية، ويبدو أنه بات يستخدم لأغراض تفاوضية وربما لتوصيل رسائل معينة لأطراف ذات صلة بالمفاوضات أو موضوعها!
وإلى جانب تأكيد موسكو انها تلقت ضمانات خطية أمريكية، فإن ثمة إشارات أخرى على أن التوقيع قد إقترب للغاية، أولها الافراج عن المواطنين الايرانيين البريطانيين، نازانين زاغاري راتكليف، وأنوشه آشوري، ويتبقى الإفراج عن مواطنين أمريكيين بإعتبار ذلك شرط أمريكي ضمني لإبرام إتفاق لإحياء الاتفاق النووي.
مرحلة "كتابة الهوامش" التفاوضية كما أسماها إنريكي مورا، منسّق الإتحاد الأوروبي المكلّف إدارة مباحثات إحياء الإتفاق النووي، تعني أن النص الأساسي بات جاهزاً وان الأمر بات يرتبط بالإتفاق على "الإخراج" والتفاصيل او الشروط الفرعية ذات الصلة مثل الإفراج عن المعتقلين في إيران وغير ذلك، وهو ماتحدث عنه وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان حين قال إن أربعة موضوعات كانت من ضمن "خطوطنا الحمراء" في المراحل النهائية من المفاوضات، وقد حل في الأسابيع الثلاثة الماضية موضوعين تقريبًا ووصلنا بشأنهما الى مرحلة الإتفاق، لكن يتبقى موضوعان، أحدهما ضمانة إقتصادية"، من دون أن يوضح طبيعة الموضوع الثاني، الذي قالت بعض المصادر أنه يتعلق برفع الحرس الثوري الايراني من قائمة الإرهاب الأمريكية.
لم يكشف حتى الآن عن طبيعة التفاهمات التي تم التوصل إليها بين الجانبين الايراني والأمريكي في فيينا، ولكن المؤكد أن إيران قد حصلت على مايمكن تسويقه داخلياً واقليمياً على الأقل باعتباره انتصاراً سياسياً على الولايات المتحدة، كونها ليست في موقف يضطرها لتقديم تنازلات كبيرة، لاسيما بعد الأزمة الأوكرانية التي عززت موقفها التفاوضي، وخلقت "حاجة ملحة" ـ كما أسمتها الخارجية الفرنسية ـ للتوصل إلى هذا الاتفاق، ناهيك عن بروز حاجة لدخول النفط الإيراني للأسواق العالمي في أقرب وقت ممكن.
من شبه المؤكد أيضاً أن هذا الإتفاق قد يقوي موقف إيران اقليمياً ودولياً، ويعزز علاقاتها مع روسيا لاسيما ان طهران قد وظفت الأزمة الأوكرانية لمصلحتها و استطاعت الإبقاء على علاقاتها مع موسكو من دون الإنزلاق إلى خلاف بسبب الشروط الروسية التي كادت تفسد الصفقة في مراحلها الأخيرة، واستطاعت الإبقاء على تحالفها المصالحي البحت مع روسيا لأن خسارة موسكو في هذه الظروف قد تكون فادحة بالنظر إلى تداخل المصالح في ملفات عدة أبرزها سوريا.
الخلاصة هنا أن المنطقة تقترب من أجواء وظروف أشبه بظروف عام 2015، حين تم توقيع الإتفاق النووي الأصلي وما أعقبه من تداعيات لا تزال المنطقة تدفع تكلفتها الإستراتيجية حتى الآن، وما اشبه الليلة بالبارحة، ولكن الجديد هذه المرة أن الإدارة الأمريكية خرجت من مفاوضات فيينا في حالة أضعف استراتيجياً، وحصلت على إتفاق تهدئة أو ترحيل لمخاوف وتهديدات تظل باقية تطل برأسها بين الفينة والأخرى، بينما خرجت إيران وهي تستشعر قوة موقفها، لاسيما أن البيئة الدولية باتت أكثر ملائمة للمناورات والمراوغات في ظل تنامي التنافس الإستراتيجي بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة ثانية.
الأمر الأكثر أهمية في هذا الإطار أن تعمل دول مجلس التعاون على مواصلة إستراتيجياتها الحالية في بناء علاقات وشراكات دولية وفق هذه المعطيات، وألا تحصر رهاناتها وخياراتها الإستراتيجية على متغير حصري أو شريك دولي معين، حيث أثبت التنوع في بناء الشراكات فعاليته ومنح دول المجلس مكانة أقوى ما جعلها أقل عرضة للضغوط سواء في ملف صادرات النفط أو غيرها، وباتت الولايات المتحدة، الشريك الأقوى، على بينة بضرورة تبادل المنافع والمصالح ومراعاة الطرف الآخر (الخليجي).