ليس جديداً ولم يكن سراً في يوم من الأيام أن العرب، أو معظمهم على الأقل، ولاسيما في دول مجلس التعاون ينظرون إلى إيران باعتبارها مصدر تهديد لأمنهم واستقرارهم، وهذا الأمر ليس استنتاجاً من دون دلائل، ولا إتباعاً لحليف من القوى الكبرى، ولم يكن كذلك ناجماً عن عداء أيديولوجي ولا صراع إقليمي تقليدي، بل يتربط أساساً بسلوكيات النظام الإيراني منذ ثورة الخميني عام 1979، حيث تعمقت بذور الكراهية وبات السلوك السياسي والأمني الإيراني مصدر خطر حقيقي إبتداء من الخطاب الذي كان يهتف بتصدير الثورة ومواصلة تكريس إحتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) مع رفض متواصل ومتكرر لمساعي تسوية هذه القضية سلمياً، وانتهاء بتمويل الميلشيات الطائفية التي تشن اعتداءات بالصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرّة على بعض دول مجلس التعاون، مروراً بالرغبة في الهيمنة والنظرة الإستعلائية وترديد الشعارات التي تتنافر مع واقع الحال الإيراني.
في الماضي القريب، كانت دول مجلس التعاون تعتمد في حماية أمنها الوطني ضد تغولات الجار الإيراني على بناء تحالفات وشراكات إستراتيجية مع الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ومع حدوث تغيرات في أولويات هذه الدول وبروز مؤشرات على تشكل نظام عالمي جديد في أعقاب تفشي جائحة "كورونا" واندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، لم يكن هناك أمام دول المنطقة سوى البحث عن إستراتيجية دفاعية مشتركة توفر لها الحماية اللازمة ضد مصادر التهديد القائمة والمحتملة من خلال الإعتماد على الذات.
في ضوء ماسبق، يمكن قراءة وفهم أحداث وتطورات عدة جرت في الآونة الأخيرة، منها سعي دول مجلس التعاون لبناء الجسور مع الجار الإيراني، ومنها سعي هذه الدول إلى تبريد الأزمات الإقليمية كافة بما يوفر الأجواء لتنفيذ خطط التنمية الوطنية بعيداً عن أجواء العنف والصراعات التي تعاني منها دول عربية عدة، ومنها كذلك إعادة النظر في إستراتيجيات التعامل مع إسرائيل، والبحث عن بدائل جديدة للشعارات والأيديولوجيات الصدامية التي لا تخدم سوى تنظيمات الإرهاب.
بلا شك أن إتفاقيات ابراهيم التي تم توقيعها بين دول عربية عدة و إسرائيل في السنوات الأخيرة تمثل تطوراً طبيعياً للتغيرات الحاصلة في بيئة العلاقات الدولية والإقليمية، والأمر هنا لا يخص إيران ولا غيرها بل يتعلق بتوجهات سيادية للدول التي وقعت هذه الإتفاقيات، ومن الغريب أن يتمترس النظام الإيراني وراء نظرية المؤامرة في تفسير كل تحركات دول المنطقة، بما يوحي بأن طهران تريد أن تدور عواصم الإقليم جميعها في فلكها الإستراتيجي، وهذا ليس أمراً منطقياً ولا يعكس توازنات القوى الحقيقية التي تسكن الخيال السياسي الإيراني وتركز فقط على مراكمة السلاح والعتاد، وتتجاهل تماماً تطوير بقية موارد القوى الشاملة للدول.
زعم الإيرانيون فيما مضى أن التحالفات الخليجية مع القوى الكبرى تستهدفهم، والأن يرددون النغمة ذاتها عند بروز أي تطور يرتبط بالعلاقات بين بعض دول مجلس التعاون و إسرائيل، ولو سلمنّا ـ جدلاً ـ بصحة هذه المزاعم وواقعيتها فإن الرد البديهي عليها لا يكون من خلال تصعيد السلوك العدائي ورفع نبرة الخطاب السياسي ضد الجميع، بل يفترض أن تٌقرأ هذه التطورات جيداً ويتم التعامل معها بالشكل السياسي والدبلوماسي الذي يمكن أن يصب في مصلحة طهران، التي تكتفي بترديد الشعارات والحديث عن مبادىء حسن الجوار والرغبة في التعاون جنباً إلى جنب مع الإيعاز لأذرعها الميليشياوية بضرب مصالح جوارها الإقليمي! والمقصود هو أن تركز إيران على تبريد الأجواء مع دول الجوار وقطع الطريق على أي محاولة مفترضة لإستغلال الفتور أو البرود في علاقات الجانبين، الخليجي والإيراني، ولكن هذا السيناريو الحالم لايجد مطلقاً طريقه إلى أرض الواقع!
لا يمكن لأي دولة أو نظام سياسي أن يمضي على نهج واحد لا يتغير، حيث يفترض أن تتتماهى سلوكيات الدول مع المعطيات والبيئة المحيطة، وتستجيب بمرونة لكل ما يتنافر مع مصالحها، ولكن النظام الإيراني يتمسك بالغطرسة والاستعلاء ويرفض كل محاولات التقارب مع جواره العربي الإقليمي، ولا يجد هذا الجوار أي أثر للصبر التفاوضي البالغ الذي يشتهر به الدبلوماسيين الايرانيين في التعاطي مع الآخر، بل لا يجد سوى لغة خشبية وعبارات متكررة وسعي لفرض الإرادة وإملاء الشروط مصحوباً باستعراضات متواصلة للقوة من خلال هستيريا المناورات والتدريبات التي تحمل رسائل لا تخفى على أحد.
وسواء إتجهت بعض دول مجلس التعاون لبناء تحالف مع إسرائيل أم لا، فإن ما يثير الدهشة أن دولة إقليمية مؤثرة مثل إيران لا تستطيع امتلاك القدرة على التفاهم مع جوارها وتكتفي بالتهديد والوعيد الذي تعتقد أنه كاف للتعاطي مع مجمل التطورات الإستراتيجية الكبرى التي تشهدها منطقتنا والعالم أجمع!
مشكلة النظام الإيراني ـ برأيي ـ أنه لا يمتلك مشروعاً تنموياً حقيقياً يحتاج معه إلى أجواء إستقرار وسلام، بل على العكس من ذلك تماماً يمتلك مشروعاً توسعياً معادياً لأجواء الإستقرار الإقليمي وقائم على نشر العنف والفوضى والتمدد أيديولوجياً باستغلال الموارد الطاقوية الهائلة التي تمتلكها البلاد، من دون أي تفكير واقعي في مراعاة مصالح الشعب الإيراني، وبالتالي فهذا السلوك العدائي المفرط والمزمن يرتبط أساساً بالرغبة في الهيمنة ولا علاقة له بالإفتقار إلى البدائل والواقعية السياسية، بدليل أن هذا النظام الذي يعادي بيئته الإقليمية على طول الخط هو نفسه من يجلس للتفاوض ـ ولو بشكل غير مباشر ـ مع من يعتبره عدوا للشعب الإيراني!