لا يخفى على أحد تراجع نفوذ ودور فرنسا في مناطق نفوذها التقليدية بغرب أفريقيا بشكل متسارع خلال الآونة الأخيرة، ورغم أن الأمور لم تستقر ولم تحسم بعد بشكل نهائي في تلك المنطقة التي باتت مسرحاً لصراع دولي بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن باريس تأخذ باعتبارها أن الحفاظ على مكانتها وثقلها الدوليين يتطلبا إستجابات مرنة وسريعة على هذه التغيرات الإستراتيجية.
علاقات الشراكة القوية بين بعض دول مجلس التعاون كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات من ناحية وفرنسا من ناحية ثانية، هي علاقات راسخة وتتنامى بوضوح في السنوات الأخيرة، حيث قام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات ـ حفظه الله ـ بزيارة رسمية مؤخراً إلى فرنسا، وكذلك قام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بزيارة مهمة إلى الجمهورية الفرنسية.
فرنسا تعد أحد الشركاء الاستراتيجيين التقليديين لدول مجلس التعاون، وهناك علاقات تاريخية قوية ومتنامية سواء مع الإمارات أو السعودية، وقد سبق لولي العهد السعودي زيارة فرنسا في عامي 2018، حيث وقع الجانبان اتفاقات وبروتوكولات تعاون بقيمة تناهز نحو 18 مليار دولار، كما قام لسموه أيضاً زيارة لباريس في يوليو عام 2022. وفي المقابل، استقبلت الرياض في ديسمبر 2021 الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارة تم خلالها توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات الصناعة والثقافة والفضاء والقطاع التقني، إضافة إلى الإتفاق على مشروع ثقافي ضخم لتطوير محافظة العلا، وإقامة منشأة لإنتاج هياكل الطائرات (صناعات عسكرية)، وصيانة محركات الطائرات، وجميعها مؤشرات تعكس عمق علاقات البلدين وتواصلها واستمراريتها.
الجولة التي قامت بها مؤخراً وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو خلال الفترة بين 6 ـ 11 سبتمبر الجاري، وشملت المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات تعكس إهتمام باريس بتعزيز شراكتها مع دول مجلس التعاون، وتعزيز الحضور الإستراتيجي الفرنسي في منطقة الخليج العربي ذات الأهمية الإستراتيجية الفائقة للقوى الكبرى كافة.
منطقة الشرق الأوسط والأدني، بحسب التقارير الدولية المتخصصة، هي الأكثر جذباً لصادرات الأسلحة الفرنسية، التي ازدادت بشكل كبير خلال السنوات الماضية، حتى أصبحت فرنسا ضمن قائمة الدول الخمس الأكثر تصديراً للأسلحة عالمياً، وتحتل موقعاً متميزاً للغاية ضمن موردي الأسلحة الدفاعية لدول مجلس التعاون.
المدخل الدفاعي هو أحد ركائز علاقات الشراكة بين فرنسا ودول مجلس التعاون ولكنه لا يختزل العلاقات في مجملها، فهناك جوانب أخرى حيوية ترتكز عليها هذه الشراكات، ولاسيما أن فرنسا تبدو بحاجة إلى تقوية علاقاتها ووجودها ونفوذها الشرق أوسطي لأسباب واعتبارات عدة أولها ـ كما أسلفنا ـ التهديد القوي المتنامي الذي يواجه النفوذ الفرنسي التقليدي في منطقة غرب أفريقيا، حيث الأمور تزداد سوءاً بين فرنسا ودول أفريقيا عدة مثل مالي والنيجر وأخيراً الجابون، حيث جاءت الانقلابات العسكرية بأنظمة حكم شديدة العداء للسياسات الفرنسية، وهو تطور لا يهدد فقط نفوذ فرنسا بل ومصالحها الإستراتيجية أيضاً، على اعتبار أن فقدان السيطرة على مناجم اليورانيوم في النيجر والجابون تمثل خسارة كبيرة للاقتصاد والمصالح الفرنسية.
ثمة اعتبار آخر مهم يتعلق بأن الولايات المتحدة وهي الدولة التي تقود حلف "الناتو" وتمتلك علاقات شراكة قوية مع فرنسا باتت تزاحم باريس على نفوذها في تلك المنطقة الأفريقية في السنوات الأخيرة بداعي مكافحة الارهاب والتطرف وغير ذلك، وقد شعرت فرنسا بالانزعاج من الأدوار التي تلعبها الولايات المتحدة في منطقة نفوذها التقليدي في السنوات الأخيرة.
هناك اعتبار ثالث يتعلق بتصاعد الصراع الدولي على وضع قواعد نظام مابعد أوكرانيا، حيث تتسابق الصين وروسيا مع الغرب على مراكمة مقدرات القوة والنفوذ وبناء التحالفات مع الدول والتكتلات كافة من أجل بناء ما يوصف بنظام عالمي أكثر عدالة وتوازناً، وهنا تجد فرنسا نفسها في موقف لا تحسد عليها سواء في ظل إستمرار الحرب في أوكرانيا وعدم وجود أي أفق لحلها، أو بسبب تقلص النفوذ الفرنسي وتزايد موجة العداء لها في أفريقيا في توقيت بالغ الحرج والحساسية بالنسبة لباريس.
في ضوء ماسبق، علاوة على الحساسيات والتعقيدات التي تحيط بعلاقات فرنسا مع دول المغرب العربي، تبدو منطقة الخليج العربي، في قلب حسابات وخيارات باريس لتعزيز موقعها ومكانتها الدولية في إطار الصراع على الهيمنة والنفوذ الدوليين.