في تطور لافت للنظر، أعلنت بولندا، إحدى أقوى حلفاء أوكرانيا، أنها لن تزود جارتها بالأسلحة إثر تصاعد خلاف دبلوماسي بين الجانبين بشأن الحبوب، وقال رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي إن بولندا ستركز بدلاً من ذلك على الدفاع عن نفسها بأسلحة متطورة.
الخلاف بين الجارتين جاء على خلفية تمديد بولندا والمجر وسلوفاكيا الحظر على الحبوب الأوكرانية، حيث اعتبر الرئيس فولوديمير زيلينسكي هذا القرار في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نوعاً من الخداع، معتبراً أن بعض أصدقاء أوكرانيا الأوروبيين يدّعون "التضامن سياسياً على المسرح بينما يصنعون قصة مثيرة الحبوب"، وهو حديث أغضب بولندا، التي تعد من أوائل الدول التي قدمت الدعم لأوكرانيا عقب بدء الحرب، حيث أرسلت لها أكثر من 300 دبابة ونحو 14 طائرة مقاتلة من طراز "ميج 29"، وبلغت المساعدات العسكرية البولندية لأوكرانيا حتى أغسطس الماضي أكثر من 3 مليار دولار، كما تستضيف نحو 1.5 مليون لاجىء أوكراني.
أزمة حظر الحبوب الأوكرانية هي بالأساس قضية تجارية فنية تتعلق برغبة الدول في الحفاظ على حقوق المزارعين المحليين، ولا علاقة لها بالمواقف السياسية تجاه حرب أوكرانيا، ولكنها تخفي قدراً من التململ الغربي من إطالة أمد الحرب من دون تقدم يذكر، رغم كل الدعم المالي والعسكري الذي قدم لأوكرانيا، ورغم الأعباء الثقيلة التي تقع على كاهل الاقتصادات الأوروبية جراء هذه الحرب.
موقف بولندا هو خلاف مع أوكرانيا مع عداء صارم لروسيا، بينما نجد دولة أوروبية أخرى مثل المجر تبدي موقفاً مختلفاً عن بقية الدول حيث عارضت منذ البداية توقيع عقوبات ضد روسيا، وتدفع لشراء الغاز الروسي بالروبل، وترفض مساعدة كييف بالسلاح.
المكاسب المحققة في الهجوم الأوكراني المضاد الذي بدأ منذ أشهر عدة مضت لا تكاد تذكر، ولا تتناسب مع حجم الدعم الذي حصل عليه الجيش الأوكراني، وهو ما يتماشى مع تقديرات رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي، الذي أشار من قبل إلى أن هجوم أوكرانيا المضاد لن ينجح في استعادة كامل الأراضي التي استولت عليها روسيا، بينما يجادل آخرون في أن الهجوم قد فشل لكونه لم يحقق الاهداف المرجوة.
بشكل عام من الصعب الرهان على تصريحات المسؤولين الغربيين أو الروس أو نظرائهم الأوكرانيين في تحديد جدوى الهجوم الأوكراني المضاد، باعتبار أن جزءاً مهماً من هذه الحرب قائم على الجانب النفسي والتعبوي والاعلامي، ناهيك عن الشق السياسي الخاص بممارسة ضغوط على العواصم الغربية لتقديم المزيد من الدعم لانقاذ الموقف والدفع باتجاه البحث عن صفقة لحفظ ماء وجه الجميع في هذه الحرب.
بلاشك أنه من الصعب القطع بأن هناك طرف رابح في هذه الحرب، فلا أوكرانيا حققت أهدافها، ولا الغرب نجح في هزيمة روسيا او حتى كسر إرادتها، ولا روسيا أيضاً يمكن ادعاء النصر التام في ظل الحرب المكلفة التي شنتها، وتكبدت فيها خسائر اقتصادية باهظة بسبب العقوبات الغربية، فضلاً عن عدم تحقق معظم الأهداف الاستراتيجية التي وضعها الكرملين لهذه الحرب، لاسيما في ظل اقتراب "الناتو" أكثر فأكثر من حدود روسيا إثر انضمام فنلندا وقريباً السويد ودول أخرى مرشحة للانضمام للحلف.
الخلاف الأوكراني ـ البولندي قد لا يقدم دليلاً كافياً على تململ أوروبا من هذه الحرب، ولا يمكن الانطلاق منه لبناء فرضية تخص إمكانية انحسار الدعم العسكري والمادي الذي يقدم لأوكرانيا، لسبب بسيط هو أن أوروبا لم يعد أمامها من خيارات سوى البحث عن تسوية تفاوضية أو المضي في هذه الحرب إلى مالانهاية، ولأن التفاوض سيناريو مستبعد في المرحلة الراهنة، فإن مواصلة الدعم مع إمكانية تقليصه أو تغيير نوعيته وطبيعته بحسب ظروف كل دولة والاوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها، يبدو هو الخيار الأرجح للتحقق، علماً بأن القوى الأوروبية الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قد تبقي على موقفها بعد أن تكبدت فعلياً الأثمان الفادحة لهذه الحرب، فضلاً عن أنها قد لا ترغب في انقسام الصف الغربي في مواجهة روسيا في هذه المرحلة الحاسمة من التفاعلات الدولية.
الموقف الأمريكي قد يلعب الدور الأبرز في الابقاء على الموقف الأوروبي موحداً بشأن أوكرانيا، وهنا لا تزال إدارة الرئيس بايدن تصر على دعم أوكرانيا وتخوض حرب استنزاف بطيئة ضد روسيا مهما كانت الكلفة البشرية والمادية.