لفتت القمة الروسية ـ الأفريقية التي عقدت مؤخراً بمدينة سان بطرسبرغ الأنظار، حيث شارك فيها ممثلو 49 دولة أفريقية من أصل 54، وشارك أكثر من نصف هذه الدول بممثلين على مستوى الشخص الأول أو الثاني في البلاد، حيث حضر القمة 17 رئيس دولة، وخمسة نواب للرئيس وأربعة رؤساء حكومات ورئيسا واحدا للبرلمان و17 دولة أخرى يمثلها نواب رئيس الوزراء والوزراء، معظمهم من وزراء الخارجية، فيما ستمثل خمس دول على مستوى السفارات.
لاشك أن إنعقاد القمة في دورتها الثانية بهذه المشاركة الأفريقية الواسعة، وبالرغم من الضغوط القوية التي مارستها الدول الغربية، ينطوي على دلالات عديدة أهمها إنحسار النفوذ الأوروبي والأمريكي في القارة الأفريقية، لمصلحة النفوذ الروسي والصيني، وأن الدول الأفريقية تريد الإبتعاد عن الغرب وتسعى لبناء تحالفات مغايرة مع روسيا والصين، الخصمين الاستراتيجيين اللدودين للغرب، ولاسيما أن هذه الدورة من القمة الروسية ـ الأفريقية تعكس محدودية تأثير الضغوط الغربية التي سعت بكل الطريق لإفشال هذه القمة.
نجح الكرملين من خلال ثاني قمة روسية ـ أفريقية، بعد قمة سوتشي التي عقدت في عام ٢٠١٩، في كسر محاولات عزل روسيا دولياً، حيث سعى الرئيس بوتين خلال القمة إلى كسب ود الدول الأفريقية وتعزيز العلاقات معها بكل الطرق، حيث أكد الرئيس بوتين أن بلاده مستعدة لأن تحل صادراتها من الحبوب محل الصادرات الأوكرانية إلى أفريقيا، وقال "سنكون مستعدين لتزويد بوركينا فاوس وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وأريتريا بما يتراوح بين 25 و50 ألف طن من الحبوب المجانية لكل دولة في الأشهر الثلاثة أو الأربعة المقبلة"، كما عرض الرئيس بوتين اسقاط مليارات الدولار من الديون المستحقة لبلاده على بعض الدول الأفريقية، كما عرض تقديم التكنولوجيا المتقدمة للدول الأفريقية لمساعدتها في ضمان الأمن الغذائي، وهو ما يعكس توجهاً روسياً استراتيجياً غير مسبوق لترسيخ الشراكة مع دول القارة الأفريقية.
بلاشك أن أحد ساحات الصراع الروسي ـ الغربي، تدور بشكل غير مباشر على صعيد الهيمنة والنفوذ عالمياً، وهنا يمكن النظر إلى المنتديات والقمم التي تستضيفها روسيا خلال الآونة الأخيرة، باعتبارها تأكيداً على فشل سياسات عزل روسيا دولياً، وإظهار تأثير روسيا ومكانتها، وإظهار حدود قدرتها على التحرك وحشد الدول في الدوائر التي يعتقد الغرب أن له سيطرة كبيرة عليها.
ثمة جانب آخر يتعلق بتراجع النفوذ والتأثير الغربي حتى في دوائر النفوذ التقليدية الغربية، حيث كانت مناطق ودوائر إستراتيجية أفريقية واسعة محسوبة تقليدياً على الغرب، بحكم العلاقات التاريخية التي كانت تحكم هذه الدول والمناطق مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ولكن الحاصل أن السنوات الأخيرة قد شهدت تحولات كبرى في تحالفات وروابط الكثير من العواصم الافريقية مع القوى الدولية الكبرى، وبات النفوذ الروسي حاضراً بقوة أفريقياً، إلى جانب النفوذ الصيني.
ورغم كل شىء، فإن المشاركة الأفريقية الواسعة في قمة سان بطرسبرغ، تثير غضباً غربياً عميقاً، وتضع الغرب في موقف حرج بسبب تمدد النفوذ الروسي في أثناء ذروة المحاولات الغربية لعزل موسكو، وايقاعها تحت طائلة العقوبات الغربية التي لم تتماس ـ حتى الآن ـ مع الأهداف التي وضعت من أجلها.
في مقابل ماسبق، هناك رؤية تقول أن قمة سان بطرسبرغ حضرها 17 زعيم أفريقي فقط، مقابل 43 زعيماً شاركوا في القمة الأولى التي عقدت في عام 2019، ولكن هذه الرؤية مردود عليها بأن القمة الأولى عقدت قبل إندلاع حرب أوكرانيا، وشاركت فيها معظم الدول الأفريقية بالفعل، ولكن تطور الأحداث بالصورة التي يعرفها الجميع يجعل من مشاركة نفس الدول تقريباً بممثلين على مستويات بروتوكولية مختلفة إشارة جيدة بالنسبة لموسكو، التي تفادت فخ المقاطعة والعزلة التي أرادها لها الغرب، بل وضمنت حضور 17 رئيس دولة أفريقية وممثلين رفيعي المستوى من المستوى الثاني والثالث لبقية الدول المشاركة، بينما أرادت الدول الأفريقية المشاركة تفادي إغضاب الغرب وإرسال إشارة ايجابية لروسيا في الوقت ذاته، وهو مايعبر عن انقسام واضح واستقطاب حاد في المواقف الأفريقية والدولية حيال الصراع الروسي ـ الغربي.
لا تريد أفريقيا بالتأكيد أن تكون أداة للصراع على النفوذ العالمي، وتدرك دول القارة انها باتت محط أنظار القوى الدولية جميعها، وبالتالي فهي لا تريد أن تبعث برسالة سلبية لأحد وتسعى إلى ترسيخ حيادها في الأزمات، وتركيزها على مصالحها الاستراتيجية، ومن ثم تحقيق الاستفادة الأكبر من الاهتمام الدولي المتزايد بالقارة.