لا أحد في عالم السياسة يجهل قيمة المخضرم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر في آن معاً، والذي يوصف بالثعلب العجوز والداهية الأكبر، وهو أحد عباقرة السياسة والدبلوماسية، الذين لعبواً دوراً بارزاً في هندسة العلاقات الدولية خلال القرن العشرين.
كان "ترسيم" العلاقات الصينية ـ الأمريكية أحد أبرز أدوار كيسنجر في عالم الدبلوماسية، حيث نجح من خلال منصبه كوزير للخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، وعبر دبلوماسية "البينج بونج" الشهيرة في تمهيد طريق الحوار بين بكين وواشنطن، حتى توجت جهوده في سبعينيات القرن الماضي بزيارة قام بها الرئيس الأمريكي نيكسون للصين والتقي زعيمها التاريخي ماوتسي تونج.
كيسنجر الذي تجاوز المائة عام بشهر أو أكثر قليلاً عاد إلى واجهة الأحداث مؤخراً من خلال زيارة لافتة للنظر قام بها إلى الصين، حيث التقى الرئيس شي جين بينغ، الذي أعرب عن أمله في أن يواصل الأخير لعب دور بناء بتطبيع العلاقات الصينية الأمريكية، وقال الرئيس الصيني لدى لقائه كيسنجر: "قبل 52 عاما، كانت العلاقات الصينية الأمريكية عند نقطة تحول"، إلى أن الصين لن تنسى "أصدقاءها القدامى" ومساهمة كيسنجر الشخصية في العلاقات الصينية الأمريكية، وأضاف: "الرئيس ماو تسي تونغ، ورئيس مجلس الدولة الصيني تشو إن لاي، والرئيس نيكسون، وأنتم شخصيا برؤية إستراتيجية مميزة، اتخذتم الخيار الصحيح للتعاون الصيني الأمريكي، وأطلقتم عملية تطبيع العلاقات الثنائية التي أفادت البلدين وغيرت العالم"، ومشيراً إلى أن الصين والولايات المتحدة على مفترق طرق مرة أخرى، وأنه يتوجب على الجانبين الإختيار مرة أخرى. وخاطب الرئيس الصيني كيسنجر : "آمل أن تستمروا أنتم والعقلاء الآخرون في الولايات المتحدة في لعب دور بناء للمساعدة في إعادة العلاقات الصينية الأمريكية إلى مسارها الصحيح".
كيسنجر التقى في بكين أيضاً مع وانغ لي رئيس مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، والذي يعد أحد أبرز خبراء الدبلوماسية الصينية، ولي تشانغ فو لي تشانغ فو وزيرالدفاع الصيني، الذي يرفض لقاء ممثلي "البنتاجون" الأمريكي، حيث أكد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أن "الصين والولايات المتحدة لا تستطيعان التعامل مع بعضهما كخصمين" وشدد على أن الحرب لن تؤدي إلى أي شيء مفيد لأي من الجانبين، ودعا القادة الحاليين في البلدين إلى التحلي بالحكمة، كما دعا وزارتي الدفاع في البلدين إلى إستئناف العلاقات الثنائية.
وانغ لي أشاد بـ"مساهمة كيسنجر التاريخية في تنمية العلاقات الصينية الأمريكية"، مضيفا أنه حتى الآن يلعب "دورا لا غنى عنه في تعزيز التفاهم المتبادل بين البلدين"، لافتاً إلى أن السياسة الأمريكية الحالية تجاه الصين "تفتقر إلى حكمة كيسنجر وشجاعة الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون"، مؤكداً أن "محاولة تغيير الصين مستحيلة، وتطويق الصين واحتواؤها مستحيلان".
الصين تتمسك بالمبادئ التوجيهية الأساسية التي اقترحها الرئيس شي جين بينغ، وهي الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين، وترى أنها الطريق الصحيح لاقامة علاقات صحية بين البلدين الكبيرين، أما الولايات المتحدة فلا تزال تراوح بين محاولات الحفاظ على قنوات التواصل مع بكين من جهة، وبين تطبيق إستراتيجية تستهدف عرقلة الصعود الإقتصادي الصيني من جهة ثانية. زيارة كيسنجر تستهدف بالأساس تذويب الجليد في العلاقات الصينية ـ الأمريكية فقط، حيث جاءت عقب زيارات قام بها إلى بكين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ووزيرة الخزانة جانيت يلين، وممثل واشنطن الخاص لتغير المناخ جون كيري، ويبدو أن واشنطن تراهن على تكرار مهمة كيسنجر الناجحة قبل نصف قرن، ولكن يبدو من تصريحات الداهية الأمريكي العجوز أنه يحاول "فرملة" التدهور في العلاقات بين القوتين، وهو يدرك تماماً أن البيئة الإستراتيجية الدولية وتوازنات القوة الشاملة بين واشنطن وبكين ليست كما كانت قبل خمسة عقود، وأن اليوم ليس أشبه بالبارحة، والصين ليست بحاجة لضوء أخضر أمريكي لإستعادة مكانها في الأمم المتحدة.
اعتقد أن أحد أبرز الرسائل التي يحملها كيسنجر تكمن في محاولة إقناع بكين بعدم خسارة الولايات المتحدة من أجل روسيا، وأن الخيار الأفضل للصين هو التعاون مع واشنطن أو على الأقل تفادي اغضابها وتجنب تقديم دعم عسكري لروسيا في حرب أوكرانيا، حيث تلوح في الأفق مؤشرات على قلق غربي من تصعيد محتمل في الحرب التي يخوضها "الناتو" بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، ولاسيما بعد تزويد الولايات المتحدة لكييف بقنابل عنقودية.
ورغم أن كينسجر يحتفظ بعلاقات قوية مع المسؤولين الصينيين، حيث إعتاد زيارة بكين، وكانت آخر زياراته لها في عام 2019، فإن الزيارة الأخيرة لها طابع خاص وجاءت في توقيت ينطوي على دلالات مهمة، رغم أن الإدارة الأمريكية سعت للتقليل من التوقعات بشأن نتائج الزيارة، وقالت إنه (كيسنجر) لايقوم بالزيارة كممثل لها، ولكن الأدوار التي يقوم بها مسؤولون أمريكيون سابقون في ظروف مشابهة أمر متعارف عليه، ولذا يبقى أن تتوج زيارة كيسنجر بوجود آذان صاغية له في واشنطن عقب الزيارة، حيث يعتقد أن العجوز المخضرم لن يغير وجهة نظره القائلة بضرورة تفادي خوض حرب باردة مع الصين، التي يرى أنها تختلف اختلافاً جذرياً عن الإتحاد السوفيتي السابق، وأنه تمتلك تنوعاً هائلاً في موارد القوة، التي لا تقتصر على الشق العسكري كما كان الحال بالنسبة للاتحاد السوفيتي، الذي كان ضعفه الاقتصادي أحد عوامل إنهياره، بينما تبدو الصين في اتجاه مغاير وتقترب من التفوق اقتصادياً على الولايات المتحدة، ناهيك عن تفوق الصين في قطاعات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي وكونها "مصنع العالم" الذي يمكن أن يؤثر الصدام معه على جميع الاقتصادات شرقاً وغرباً.