من يتابع ماتتضمنه أجندة اللقاءات والاجتماعات بين الدول الكبرى، يمكن أن يستنتج بسهولة أن الذكاء الاصطناعي بات أحد أهم محاور/ أدوات الصراع على الهيمنة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين. في الأدبيات الغربية يمكنك أن تلمس مخاوف متنامية للغاية من تسارع وتيرة التطور الذي تحققه الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يرى بعض الغربيين أنها احتلت ريادة هذا القطاع عالمياً لسنوات وربما عقود قادمة، بينما يشكك آخرون في هذا الاستنتاج ويرون أن الفرص لا تزال متاحة أمام الولايات المتحدة لعرقلة الطموح الصيني على هذا الصعيد.
المخاوف الغربية بدأت تزداد منذ صدور استراتيجية "صنع في الصين 2025"، وهي الخطة التي أعلنتها الصين في مايو عام 2015 بهدف زيادة قدرتها التنافسية في مجال الصناعات التكنولوجية تحت هذا الشعار، حيث قوبلت الخطة بتخوف بالغ من الولايات المتحدة التي كانت تهيمن بشكل تام على قطاع التكنولوجيا، واعتبرت أن بكين تستهدف "سرقة" مجهودها العلمي وابتكاراتها وتطويرها للسيطرة على هذا القطاع الاستراتيجي المفصلي في حسم الصراع الدائر على قيادة النظام العالمي الجديد.
تستهدف الصين بموجب هذه الخطة خفض الإعتماد على التكنولوجيا المستوردة وزيادة المكون المحلي إلى 70% بحلول عام 2025، والقطاعات الرئيسية المستهدفة هي الذكاء الاصطناعي والروبوتات والفضاء والطيران والسيارات ذاتية القيادة والطاقة والتسليح، ما يعد الأرضية التي أنطلقت منها الحروب التجارية الأمريكية المستمرة منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ولاسيما فيما يتعلق بتشديد قواعد بيع شركات التكنولوجيا الأمريكية إلى مستثمرين صينيين أو أجانب مرتبطين بالصين في إطار محاولات أمريكية حثيثة لمنع نقل التكنولوجيا الأمريكية للصين.
القلق من نتائج خطة "صنع في الصين 2025" يعود بدرجة كبيرة إلى نجاح الصين على صعيد الصناعات منخفضة التكلفة خلال العقدين الماضيين، حيث نجحت في تحويل الصين إلى مصنع العالم، وتزايدت اعتمادية جميع الدول عليها بشكل اتضحت نتائجه خلال أزمة الإغلاق العالمي إبان تفشي وباء "كورونا".
الذكاء الاصطناعي بات بنداً مهماً على جدول أعمال قمة الدول السبع الصناعية، وهناك مساع أمريكية قوية لتقييد وصول الصين إلى هذه التكنولوجيا الحيوية، من خلال وقف تزويدها بمنتجات أهمها أشباه الموصلات، التي تعد أحد أهم دوافع التشدد الأمريكي في ملف تايوان، التي تسيطر بدورها على هذه الصناعة الحيوية، وتقود الركب العالمي بحكم كونها موطن أهم شركات صناعة أشباه الموصلات أو رقائق الحواسيب في العالم.
هذه الصناعة الاستراتيجية ترتبط أهميتها بالقوة العسكرية للدول وكذلك بقوتها الاقتصادية من خلال عوائدها الاقتصادية الضخمة، وارتبط الأمر بالسيادة التقنية للدول في القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول مثل اليابان اعتبرت صناعة أشباه الموصلات "مهمة وطنية" مثل الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وهو مايفسر توجه بعض المتخصصين للقول بأن قواعد النظام العالمي الجديد ستحددها نتائج الصراع المحتدم بين الصين ووادي السيلكون الأمريكي.
أحد جوانب أهمية الذكاء الاصطناعي أنه سيكون محور قطاع الأعمال في العقود المقبلة، حيث يتوقع له أن يحدث تحولات هائلة في عالم الأعمال، حيث يشير تقرير أصدره بنك الاستثمار "غولدمان ساكس" إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل مايعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل خلال الفترة المقبلة، حيث يتم "أتمتة" بعض المهام والوظائف في جميع أنحاء العالم، وأن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستقوم بمهام ربع الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يفسر جانباً محدوداً من جوانب أهميته الفائقة، ولكن جوانب الأهمية الأكبر تتمثل في القطاعات العسكرية فضلاً عن الجوانب الأخلاقية والانسانية المرتبطة بهذا التطور، حيث يتداخل الذكاء الاصطناعي مع مختلف جوانب الحياة ويلعب دوراً حيوياً في إعادة تشكيل النظام العالمي وصياغة أنظمة الحكم وفقاً لقواعد التطور في هذا القطاع، وهي الجزئية التي تركز عليها الصين بشكل مكثف في الوقت الراهن.
السباق الأمريكي ـ الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي هو أحد مظاهر تنافس القوتين على القيادة والهيمنة في عالم مابعد أوكرانيا، ورغم قناعة الكثير من العلماء الغربيين بأن الصين تتخلف عن نظرائها الغربيين في عدة قطاعات للذكاء الاصطناعي، فإن الوتيرة التي تتحرك بها الصين تجاه ريادة هذه الصناعة توحي بالكثير على هذا الصعيد؛ فالمؤشرات تقول أن الصين تحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة لجهة حجم الإنفاق على البحث العلمي، ويخرج من الجامعات الصينية أكبر عدد من حملة شهادات الدكتوراة في الهندسة، وفي عام 2017 تفوق الباحثون الصينيون على نظرائهم الأمريكيين من حيث عدد الأوراق العلمية المنشورة. ورغم أن البعض يربط هذه المؤشرات غالباً بفارق السكان، وهو قياس كمي يبدو صحيحاً، ولكنه لا يخلو من دلالات نوعية أخرى، ففي عام 2019 بلغ عدد شركات الذكاء الاصطناعي في الصين 1189 شركة لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة التي لديها أكثر من ألفي شركة نشطة في مجال الذكاء الاصطناعي.
المحصلة أن الصين تبقى الدولة الوحيدة التي تلاحق بقوة الهيمنة الغربية، الأمريكية تحديداً، على قطاعات المستقبل وأهمها الذكاء الاصطناعي، وهذا بحد ذاته يمثل عنصر قلق غربي، لأن الصين لديها أكبر قاعدة مستهلكين في العالم، وهذا يساعدها كثيراً في تطوير هذه الصناعة، فالشركات الصينية تدفع بمنتجاتها للأسواق، ولديها مستهلك منفتح على خدمات الذكاء الاصطناعي، وكل ذلك يدعم فرص تطوير تقنيات هذه الصناعة وقدرتها على المنافسة عالمياً، وهذا كله بفعل إستراتيجية "صنع في الصين 2025"، التي جعلت من أولويات البلاد أن تصبح الصين قوة عظمى وتكنولوجية رائدة بحلول هذا التاريخ والانتقال من التصنيع منخفض القيمة المضافة إلى الاقتصاد القائم على الابتكار.