رغم الضجة التي أحاطت بواقعة "المنطاد" الصيني، الذي أسقطته الولايات المتحدة ووصف بأنه اداة للتجسس على دول عدة أخرى منها الهند واليابان وتايوان والفلبين، فإن الدلالة الأهم في الواقعة أنها تعكس واقع المواجهة الباردة بين الصين والولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، فالبالون أو المنطاد قد حصل على إهتمام سياسي يفوق أهميته العسكرية والمعلوماتية بشكل كبير، حيث تحول إلى رمز لقياس حدود القدرات الإستخباراتية الأمريكية في مواجهة إختراق صيني محتمل على الصعيد المعلوماتي.
سياسياً، تسبب "المنطاد" في تأجيل زيارة انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي إلى الصين، وأقرت بكين من جانبها بأن العلاقات مع واشنطن قد "تأثرت وتضررت بشدة" بسبب الواقعة، حيث أبدت الصين احتجاجها على إستخدام القوة لإسقاط "المنطاد" واتهمت الجانب الأمريكي بالمبالغة في رد الفعل وانتهاك القوانين الدولية بشكل "خطير".
المسألة باتت تتمحور حالياً حول "حطام المنطاد" باعتباره الصندوق الأسود للموضوع كله، حيث قررت واشنطن عدم إعادة ما وصف بالبقايا الأولية من الحطام للصين، واعتبرت ذلك أمراً غير وارد، وتلك مسألة تثير حفيظة الصينيين بالتأكيد لأن الإستحواذ على الحطام يعني بالتبعية الوصول إلى تكنولوجيا تعكس حجم التقدم التقني الصيني، وبالتالي فقد أصبح الحطام بمنزلة "هدية" وصلت إلى الولايات المتحدة من دون جهد منها.
لاشك أن جزءاً كبيراً من رد الفعل الأمريكي قد ارتبط بما هو آت من قرارات، بمعنى أنه بمجرد إكتشاف "المنطاد" داخل المجال الجوي الأمريكي، فإن القرار كان أقرب إلى "بناء قضية" تبرر مهاجمته والاستحواذ على حطامه، سواء كان "المنطاد" مخصصاً لأغراض عسكرية أو مدنية، بحكم ترابط الغرضين كمرآة للتقدم التكنولوجي الذي يصعب الفصل فيه بين المدني والعسكري، وبالتالي فإن التعرف على مراحل التطور في مجال أبحاث الرصد الجوي على سبيل المثال ـ كما تقول الصين ـ يبدو مفيداً أيضاً في تقنيات التسلح والتجسس، بحسب الوصف الأمريكي للمنطاد، لذلك فإن حطام المنطاد سيكون صيداً أمريكياً ثميناً في كل الأحوال على الأقل للتعرف على حدود قدرات التجسس الصينية.
الخلاصة أن القضية أُختزلت الآن في مسألة بقايا حطام المنطاد، حيث تدرك الصين تماماً أنها بوابة لتعزيز المعلومات الإستخباراتية الأمريكية عن قدرات الصين التكنولوجية، وأن إعادة هذه البقايا لن تفيد في شىء طالما أنها بقيت لفترة ما بين أيدي وكالات الإستخبارات الأمريكية، التي تقول إن "المنطاد" هو جزء من برنامج مراقبة واسع النطاق، يتضمن عدد من المناطيد المماثلة وأن تجربته تمت مسبقاً في مقاطعة هاينان الصينية، وأن الولايات المتحدة لا تعرف العدد الدقيق لهذه المناطيد التي يتضمنها البرنامج، وبالتالي فإن الولايات المتحدة تتعامل مع الواقعة باعتبارها ملفاً إستخباراتياً صرفاً، وأن الشق السياسي في الموضوع هو فقط للدفاع عن الموقف الأمريكي وتبريره سياسياً ولو من خلال غطاء أزمة دبلوماسية تضع الصين في موقف إتهام واستغلال ذلك لاحقاً في الضغط عليها، ما يعني أن واشنطن لا تشعر على الأرجح بالإنزعاج سياسياً من الواقعة، وهذا مايبرر تناولها في خطاب "حالة الإتحاد" الذي ألقاه الرئيس بايدن بشكل عابر رغم أن الخطاب أُلقى في ذروة الأزمة. هنا نلاحظ أن الرئيس بايدن نفسه قد أكد عقب الواقعة أن العلاقات مع الصين لم تضعف جراء الحادث، وأن بكين تتفهم الموقف الأمريكي جيداً في هذا الشأن، مشدداً فقط على أن الإستجابة الأمريكية "قد تمت بشكل صحيح وفي أسرع وقت" ما يعني أن المسألة كلها تنطوي على رسائل ضمنية متبادلة، وأن ماوراء الكواليس فيها يفوق ماهو معلن كعادة العلاقات الدولية على هذا المستوى الصراعي.
إحدى النقاط المهمة، أنه لو صحت تصريحات مسؤولي الإستخبارات الأمريكي بشأن "المنطاد"، ولاسيما فيما يتعلق بكونه ضمن برنامج نفذت منه ما لا يقل عن 20 مهمة في 5 قارات خلال السنوات الأخيرة، فإن واشنطن تكون قد حصلت على خيوط ملف معلوماتي مهم يعزز قدراتها في الصراع البارد الذي يحتدم تدريجياً مع الخصم الإستراتيجي الصيني. وبالتالي فإن واقعة "المنطاد" أقرب إلى أن تكون معركة معلوماتية في إطار حرب ستستمر طويلاً على هذا الصعيد.
الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق باتجاه "المنطاد" الصيني، ولم يتحرك الجيش الأمريكي لاسقاطه سوى حين وصل إلى نقطة معينة تتيح فيما يبدو فرصة كبيرة لجمع بقاياه، حيث تم الإسقاط بعد أيام من رصده وتعقبه بحسب الرواية الأمريكية، وهذا ما يشير إلى أن الأولوية في واشنطن لم تتجه إلى الحفاظ على العلاقات مع بكين بمنأى عن التوتر بل اتجهت إلى الإستفادة من "الصيد المعلوماتي"، ومن ثم إفتعال أزمة دبلوماسية وتبريدها عقب ذلك بعد حشر الصين في الزاوية، أي ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. وكانت المغامرة الوحيدة في هذا السيناريو تكمن في سقوط حطام "المنطاد" على مناطق مأهولة بالسكان، ما كان سيضع الجيش الأمريكي في حرج بالغ، وهو ماتم تفاديه تماماً.
المسألة كلها قد لا تكون على مانراه من بساطة، فقد يكون "المنطاد" فخاً صينياً لدوائر المراقبة الأمريكية، لصرف الأنظار عن تكنولوجيا أكثر تقدماً، او التعرف على رد الفعل المحتمل وحدود الإستجابة الأمريكية للتهديد المعلوماتي في حال إرسال مناطيد أكثر تطوراً، أو حتى إطلاع الولايات المتحدة على جانب من القدرات المعلوماتية الصينية كاحد آليات الردع الاستباقي، لاسيما أن الخبراء يستبعدون فكرة خروج "المنطاد" عن مساره بالنظر إلى تركز حركة تحليقه بشكل تام حول المناطق العسكرية الأمريكية.
الشواهد تقول إن إدارة بايدن تعاملت مع الواقعة في إطار الرؤية الجديدة للتعامل مع الصين كمصدر تهديد رئيسي للأمن القومي الأمريكي، وهو مايفسر عدم معالجة الموضوع بشكل إستباقي بالتعامل مع "المنطاد" فور إكتشافه لاسيما أنها ليست المرة الأولى لاقتراب مناطيد صينية من الاجواء الأمريكية، ولكن ماحدث قد ركز على إدارة الأمر في ضوء الواقع الإستراتيجي الجديد، علاوة على أن إتهامات الجمهوريين للرئيس بايدن بالتساهل مع الصين قد لعبت دوراً ما في التشدد الأمريكي هذه المرة والسعي لإبراز الصرامة والحزم في مواجهة ما وصف بالإنتهاك الصيني للأمن الأمريكي للتأكيد على نهج بايدن الحازم في الدفاع عن المصالح الأمريكية. ومن المعروف أن مثل هذه الممارسات متعارف عليها بين الدول الكبرى، حيث تكررت كثيراً خلال فترة الحرب الباردة وغير ذلك لأن التجسس يبقى ملفاً وارداً في علاقات الدول حتى بين الأصدقاء وليس الخصوم فقط، وبالتالي فإن التعامل مع هذه الملفات يبقى في معظم الأحوال سرياً ومحترفاً بين المهنيين المختصين، ولكنه يخرج للعلن في حال وجود توترات سياسية أو خصومات إستراتيجية.
هناك أيضا هناك نقطة مهمة للغاية تكمن في تصريح الرئيس بايدن بأنه أصدر أمراً يوم الأربعاء بإسقاط "المنطاد" في أقرب وقت، ولكن الأمر نفذ يوم السبت، بعد أن نصح مسؤولون عسكريون بعدم اسقاطه أثناء تحليقه فوق البلاد، وهو ما يعني انتقال الملف من السياسيين إلى الأمنيين الذين قرروا وفق متطلبات معينة منها عدم تفويت الفرصة والإستفادة من "المنطاد" قدر الإمكان، سواء على الصعيد المعلوماتي أو على الصعيد الإستراتيجي فيما يتعلق بالترويج لفكرة التهديد الصيني وترسيخها لدى حلفاء الولايات المتحدة ومن ثم إستغلال ذلك في تعزيز خطط إحتواء النفوذ الصيني المتنامي عالمياً.
الخلاصة برأيي أن واقعة إسقاط "المنطاد" الصيني ستمر سياسياً ودبلوماسياً، ولكنها لن تكون الأخير في صراع المعلوماتية بين البلدين، وهذا لا يعني أن الأمر انتهى، حيث ستزداد فجوة الثقة والشكوك المتبادلة، وعلينا أن نتذكر أن حجم التبادل التجاري الهائل (690 مليار دولار عام 2022) سيبقى دوماً احد أهم موجهات العلاقة بين الخصمين الإستراتيجيين.