تثير الزيارة التي قام بها مؤخراً الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الصين توقعات وآراء متباينة بين المراقبين والمتخصصين بعضها يتصل بالعلاقات الصينية ـ الإيرانية وموقع طهران ضمن شبكة تحالفات الصين الدولية، ينما يتمثل بعضها الآخر بتأثير الشراكة الصينية ـ الإيرانية المتنامية على دول مجلس التعاون الخليجي، التي تُعد أيضاً شريكاً إستراتيجيا مهماً بالنسبة للصين، وهو ما تؤكده الشواهد والمواقف المعبرة عن السياسة الخارجية الصينية.
الزيارة التي قام بها رئيسي إلى بكين، والتي تعد الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ نحو عقدين، تعكس بالفعل رهاناً صينياً واضحاً على دور إيران كمزود رئيسي للطاقة، بينما ترى طهران أن بكين محطة رئيسية في تنفيذ إستراتيجية التوجه شرقاً التي يعتمدها النظام الإيراني للفكاك من الضغوط الغربية المتزايدة، لاسيما في ظل عدم وجود أي مؤشرات على رفع العقوبات المفروضة على إيران بسبب أنشطتها النووية، مع دخول مفاوضات إحياء الإتفاق النووي إلى نفق تجميد يصعب توقع خروجه منه خلال المدى المنظور، لاسيما بعد دور إيران في دعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وهو الدور الذي تسبب في اصطفاف الدول الأوروبية الكبرى إلى جانب الولايات المتحدة في المسألة الإيرانية.
احد أهم رهانات طهران في التوجه شرقاً يتمثل في عضوية إيران الدائمة في منظمة شنغهاي، والتي حصلت عليها بشكل رسمي نهاية العام الماضي بعد أن ظلت نحو 16 عاماً بصفة "مراقب"، وهي خطوة مهمة بالنظر إلى أهمية المنظمة التي تضم أكبر ثلاث اقتصادات مناوئة للولايات المتحدة (الصين والهند وروسيا) بخلاف كونها تضم نحو نصف سكان العالم و20% من الناتج الاقتصادي العالمي. ولكن الموضوعية تقتضي القول بأن من الصعب القول بأن هذا التكتل يمثل بديلاً كاملاً لعلاقات إيران مع الغرب في ظل تشابك المصالح وتعقيدها، حيث يصعب توقع بناء علاقات اقتصادية كاملة لإيران مع الدول أياً كانت في ظل قيود العقوبات الغربية والشروط الخاصة بمجموعة العمل المالي وغير ذلك.
هناك أيضاً إتفاق تعاون إستراتيجي تم توقيعه بين إيران والصين عام 2021، يوصف بخارطة طريق إستراتيجية لمدة 25 عاماً، ويعتمد إلى حد كبير على تدفق الإستثمارات الصينية لإيران مقابل ضمانات تزويد الصين بموارد الطاقة الإيرانية، أو صيغة النفط مقابل الإستثمارات. بكين التي تعد أكبر شريك تجاري لطهران، لم تعد المستثمر الأول في إيران بعد أن تخطتها روسيا في الآونة الأخيرة، وهو مايعكس حذر دبلوماسي صيني واضح في التعامل مع الملف الإيراني.
هناك تعقيدات وتشابكات كثيرة في هذا الملف، فعلى سبيل المثال يرى بعض المحللين أن الصين تتحدى العقوبات الأمريكية بشراء النفط الإيراني، في حين أن الأمر بالنسبة للولايات المتحدة قد لا يمثل تحدياً بقدر ماهو ورقة مساومة في إطار الصراع الإستراتيجي الدائر مع الصين، فضلاً عن أنه ليس من مصلحة واشنطن ـ واقعياً ـ إغلاق منافذ النفط الإيراني تماماً بطريقة تدفع الطلب الصيني للبحث عن مصادر أخرى بما يتسبب في إرتفاع الأسعار وما يعنيه من تأثيرات سلبية على الإقتصادات الغربية.
وبالتالي فإن المعادلة "الواقعية" التي تنتهجها واشنطن هي غض الطرف عن شراء الصين للنفط الإيراني، بما يحقق مصلحة متبادلة لبكين وواشنطن، حيث يتم شراء النفط بأسعار أقل، ويضمن في الوقت ذاته تلبية إحتياجات الصين وحصول إيران على عوائد أقل من بيع نفطها، وبالتالي فإن الأمر هنا لا يتعلق بتساهل او تراخي أمريكي في تطبيق العقوبات بقدر ما يعكس موائمات إستراتيجية تضمن تحقق جميع المصالح في وقت واحد.
السؤال الأهم هنا: هل تتأثر علاقات الصين بدول مجلس التعاون الخليجي بمصالح بكين مع طهران؟ الجواب هو لا قطعية لأسباب واعتبارات عدة في مقدمتها أن الصين تدرك تماماً حجم مصالحها الإستراتيجية المتنامية مع دول مجلس التعاون، وتعمل على إدارة العلاقات عبر ضفتي الخليج العربي وفق سياسات متوازنة تضمن تحقق المصالح دون الدخول في تحالفات إقصائية ضد هذا الطرف أو ذاك، فقوة كبرى صاعدة مثل الصين لا غنى لها عن بناء هذه التوازنات، مع الأطراف جميعها، ولاسيما أن موقف إيران وحساباتها الإستراتيجية تجعلها في وضعية لا غنى لها عن قبول التوجهات الإستراتيجية الصينية حتى وإن غاب عنها التماهي التام مع رغبات طهران وتطلعاتها، لاسيما فيما يتعلق بقضايا وملفات مثل الجزر الإماراتية الثلاث وقضايا إقليمية أخرى، ومقابل ذلك تركز طهران على الحصول على دعم صيني في ملفات أخرى قد ترى إيران أنها أكثر حيوية بالنسبة لأمنها القومي مثل الملف النووي، والعقوبات الغربية وضمان منافذ حيوية لتجارتها النفطية وغير النفطية بما يضمن إستمرار شرايين تغذية الاقتصاد الإيراني والفكاك ولو قليلاً من تأثير العقوبات الغربية، التي يتوقع أن تستمر وقد تتزايد خلال الفترة المقبلة على خلفية الموقف الإيراني الداعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا.