في الرابع والعشرين من فبراير عام 2022، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قراره بشن عملية عسكرية في شرق أوكرانيا، قائلاً إنه لا توجد خطط لإحتلال الأراضي الأوكرانية مشيراً إلى مسعى لـ"نزع سلاح"أوكرانيا، داعياً جيشها إلى إلقاء السلاح، والآن بعد مرور عام من بدء تلك العملية العسكرية، لم ينجح الرئيس بوتين في نزع سلاح أوكرانيا، ولم يلق جيش الأخيرة السلاح! وبعد عام من الصراع الشرس في أوكرانيا، لا يزال الرئيس فولوديمير زيلينسكي يرفض التنازل عن أي قطعة من الأراضي الأوكرانية في أي إتفاق سلام محتمل يتم التوصل إليه مع روسيا. بعد عام من الصراع، يقول زيلينسكي أن هجوم الربيع الذي يشنه الجيش الروسي قد بدأ بالفعل، مشيراً إلى أن قوات بلاده يمكن أن تستمر في مقاومة تقدم روسيا حتى تتمكن من شن هجوم مضاد.
بعد عام من الحرب، لم يعد العالم كما كان قبل الرابع والعشرين من فبراير 2022، حيث تغير الواقع الجيوسياسي العالمي، وأصبح الحديث عن نظام عالمي جديد يتشكل واقعاً لا محالة، بعد أن كان في طور التكهنات منذ تفشي وباء "كورونا"، حيث تحولت الحرب إلى رافعة إستراتيجية لصياغة هيكل جديد للعلاقات الدولية، وأصبحت حرب أوكرانيا نهاية لمرحلة تاريخية بدأت مع إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق أواخر في الربع الأخير من القرن العشرين.
الآن وبعد عام، وكما ذكرت في مقال لي منذ أسابيع، تتحول هذه الحرب تدريجياً إلى حرب منسية، فالآن لم يعد هناك من يهتم بسماع تطورات الوضع في أوكرانيا ليس لأنها حرب قليلة التأثير بل لأنها حرب عبثية لا تكاد ترى لها نهاية، ومن البديهي ان تصبح بمرور الوقت في خلفية الأحداث الدولية.
لم يعد أحد يهتم بهذه الحرب وبنهايتها سوى من باب الرغبة في وقف التدهور الإقتصادي الذي تسببت فيه لغالبية إقتصادات العالم، فهي حرب لا يرغب أحد في متابعة تطوراتها ولكن لا أحد أيضاً يتمنى أن تستمر سوى قلة من الأطراف المستفيدة من هذه الحرب الكارثية المدمرة.
تحولت الحرب من حرب محدودة الأهداف والدوافع إلى حرب بالوكالة بين روسيا والغرب، الذي يتمسك بقوة بموقفه الداعم لأوكرانيا من دون حدود أو سقف لهذا الدعم الذي يتصاعد تدريجياً بسبب مخاوف الغرب المتنامية من حدوث إنتصار عسكري روسي قد يتسبب في تغيرات جيواستراتيجية هائلة عالمياً وليس أوروبياً فقط.
التهديدات الروسية باللجوء إلى السلاح النووي في أوكرانيا هي أحد السيناريوهات التي تثير القلق عالمياً، لاسيما ان تصريحات القادة والمسؤولين الروس في هذا الشأن ترهن هذا الخيار بتعرض الأمن القومي الروسي للخطر، وهو معيار لا يمكن التعرف عليه أو فهم حدوده بدقة.
الغرب أيضاً لم يعد يتقبل أي فكرة بديلة لهزيمة روسيا في حرب أوكرانيا، وما شهده إجتماع وزراء دفاع حلف "الناتو" في قاعدة رامشتاين الألمانية يعكس تصاعد منسوب الإصرار الغربي على إلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا.
أكثر ما يثير الخوف والقلق في هذا الصراع المعقد، هو غياب أي قدرة دولية على كبح جماح طرفي الصراع، فالأمم المتحدة باتت مغيبة تماماً عن إدارة الصراع، ولا يكاد يسمع لها صوت في هذه الأزمة الأخطر على الأمن والاستقرار العالميين منذ الحرب العالمية الثانية. وأكثر ما يثير القلق كذلك هو فشل روسيا، بكل ما تمتلك من قوة عسكرية تقليدية، في هزيمة أوكرانيا، في سيناريو اعتقد الكرملين أنه نزهة سيقوم فيها بنزع أسلحة الجيش الأوكراني، وهو ما يعزز فرضية أو إحتمالية اللجوء إلى القوة النووية من أجل حفظ ماء وجه الكرملين والحيلولة دون نهاية بوتين سياسياً بسبب التورط في حرب أوكرانيا.
المعضلة الآن في هذه الحرب ـ برأيي ـ تكمن في أن الغرب لا يريد لبوتين الخروج من أوكرانيا بأقل قدر من الخسائر البشرية والمادية، بل هناك إتجاه غربي قوي لتوريط روسيا في حرب طويلة تستنزف قدرات الدولة الروسية، وتمنعها من العودة مجدداً كقوة دولية قادرة على تقديم الدعم للحليف الصيني في حال نشوب أي صراع عسكري مع الولايات المتحدة.
السؤال الذي يتردد في أذهان الكثيرين الآن يدور حول فرص تحقق السلام وطي صفحة الحرب في أوكرانيا، وهنا تجب الإشارة إلى الإشارة التي أصدرها الرئيس بوتين منذ نحو شهر أو أكثر بشأن استعداده للدخول طرفاً في عملية تفاوضية بحثاً عن تسوية مقبولة للأزمة الاوكرانية، والتي كان البعض قد أعتقد أنها تمثل انفراجة وشيكة للأزمة، ولكنها سرعان ماتبددت ولم تلق استجابة من الغرب لأنها تضمنت أسباب وأدها السريع حيث ارتهن الرئيس بوتين الحوار بقبول كييف لما وصفه بالوقائع الجديدة على الأرض، أي قبول خضوع أراض أوكرانية لسيادة روسيا، وهو ما قوبل بشروط أكثر تشدداً من الرئيس زيلينسكي، الذي اعلن خطة من 3 بنود للتفاوض مع الكرملين وهي سحب القوات الروسية بشكل كامل من أوكرانيا، وعدم تقديم كييف أي تنازلات، وضمان أمن أوكرانيا ووحدة أراضيها.
إحدى المعضلات التي تواجه تسوية الأزمة الأوكرانية سياسياً هو إطالة أمد الحرب، الأمر الذي يجعل من الصعب على الطرفين التراجع عن شروطهما بعد تفاقم الخسائر، فأوكرانيا تحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة الإعمار، وروسيا التي ضمت 4 أقاليم أوكرانيا إلى سيادتها دستورياً (ناهيك عن شبه جزيرة القرم التي ضممتها عام 2014)، يصعب عليها التخلي عن ذلك، وبالتالي لم يعد هناك مخرج سوى شعور أحد الطرفين أو كليهما بالانهاك والاستنزاف، أو توقف الدعم العسكري والمالي الغربي لأوكرانيا، وهو أمر يصعب توقعه على الأقل في ظل الشواهد الراهنة حيث بات الغرب على قناعة بأن هزيمة اوكرانيا هي هزيمة للغرب بأكمله، فضلاً عما ينطوي عليه سيناريو إنتصار روسي محتمل من عواقب سلبية على أوروبا.
الخلاصة فيما سبق أن البدائل أمام طرفي أزمة أوكرانيا تتقلص وهوامش الحركة دبلوماسياً تتراجع بوتيرة متسارعة، ولم يعد هناك حل آمن سوى في وقف روسيا للحرب وفق صيغة تحفظ لها ماء الوجه، أو غياب أو تغييب الرئيس الأوكراني زيلينسكي لأي سبب وظهور بديل يقبل بتسوية سياسية تجادل فيها مع الكرملين الذي يدرك جيداً أن الوقت في صالحه وأن أمريكا القوية المهيمنة على القرار الدولي لم تعد كذلك.